ما وصلنا إليه من انهيارات على الصعد كافّة، وآخرها الـ«كورونا»، هو نتاج العلاقة «الحرام» بين العلم ورأس المال. علاقة أخضعت العلم لسلطة رأس المال وانتهكت قيمه وإنسانيته وأخلاقه، فانتهى أسير سلطة لا حدود لجشعها وغرورها وعجرفتها ولا أخلاقيتها، بعيداً عن الإنسانية والكرامة... إلى أن تفلّت فيروس «كورونا» من السجن الرأسمالي وفرض سلطته على البشرية كلها.بدأت رحلة الطب مع «الشامان» المعالج بواسطة السحر والشعوذة والتعاويذ والرقص حول المريض (وهو، وإن أثار بعض الاستهزاء لدينا، إلا أنه بممارسته ما يعلم أصدق من كثير من «شامانات الطب» في عصرنا)، مروراً بطب الحضارات (الفرعونية والسومرية والهندية والبابلية والأشورية والفارسية والإغريقية والرومانية والصينية والعربية) الذي غلب عليه علم الأعشاب والنباتات، مع بدايات جراحية بسيطة... وصولاً إلى الطبّ الحديث. وهذا الأخير انطلق بداية القرن العشرين، مع إرساء قواعد تنظيم «علم الطب»، مقدّماً ممارسته كـ«رسالة»، قيم وأخلاقيات وإنسانيات حملها «الحكيم» وترجمها بحسّ علمي - اجتماعي وقدسية علاقة بالمريض.
استمر تألّق الرسالة حتى منتصف القرن العشرين، حين دخل الوسيط (شركات الدواء والصناعات الطبية التكنولوجية وشركات التأمين) على خط العلاقة المباشرة بين الحكيم والمريض، فبدأت الهوة تتسع بينهما والمسافة تزداد، حتى أضحى الوسيط شريكاً في المخاطبة والتشخيص والعلاج... فانقرض الحكماء أو يكادون، وتكاثر الأطباء، ومات أبقراط مجدّداً ومعه قَسَمه، لأن لغة المال هي نقيض الأخلاقيات والقيم والإنسانيات، ما لم تُلجم بضوابط تفصل بين ضرورة الاستفادة من قدراتها وتقديماتها العلمية، وبين الانحناء أمام إغراءاتها المادية المضافة والسقوط في شباكها.
وتجلّى ذلك في السقوط المريع للجامعات وبحوثها العلمية في براثن رأس المال ومخططاته، فباتت تتسوّل التمويل لاستمراريتها، وتشارك في «شيطنة العلم» بواسطة التلاعب بالجينات البشرية، وصناعة العقل والذكاء، والروبوت المهين للنفس البشرية، ملغياً العلم بتواضعه، مقرّراً السلوك البشري ومتحكّماً بإرادته، فتقدّم الوجه البشع والخطير للعلم، وهو ما وثّقته عشرات المؤلفات الأميركية الرافضة لاستباحة العلم بوحشية رأس المال، ما يؤكد بالتالي وجود مجموعة سرية تدّعي «النخبوية»، وتخطط للسيطرة على العالم بكل الوسائل. وفي هذا السياق، يتكرّر مسلسل الفيروسات وآخرها الـ«كورونا»!
من يقرأ كتاب «الحقيقة حول شركات الدواء» The Truth About the Drug Companies لمؤلفته الدكتورة مارسيا أنجل، المديرة السابقة لـ«نيو إنغلاند جورنال أوف ميديسين» (New England Journal of Medicine)، إحدى أهم المجلات الطبية، تتضح له صورة العلاقة بين شركات الدواء ومواقع القرار السياسي، وخصوصاً في الولايات المتحدة. وأكثر ما تجلّى ذلك في عهد الرئيس رونالد ريغان، مطلع ثمانينيات القرن الماضي، حين مُرّر في الكونغرس قانون Bay & Dole الذي سمح لأطباء الجامعات بتسجيل إحصاءاتهم كبراءة اختراع تُحتسب لهم مادياً، ما أدخل فيروس الفساد المالي إلى «حرمة كليات الطب»، وخصوصاً بعدما وضعت شركات الدواء الكبرى يدها على الموضوع، وتحوّلت من شركات «مخترعة» Innovator إلى شركات تسويقية راشية للضمائر السياسية والطبية، عبر خرق القوانين واستخدام كل الألاعيب اللّاأخلاقية واللّاإنسانية لتكديس الأرباح على حساب الصحة البشرية، الفقيرة منها بخاصة كما هي حال أفريقيا المحرومة من دواء فاعل للملاريا.
ومن يقرأ كتاب «العالم بالنسبة لشركة مونسانتو»، لمؤلفته الباحثة ماري مونيك روبين، حول الفساد والتلوّث الغذائي للسيطرة على الغذاء العالمي عبر هذه الشركة مونسانتو التي أُسست عام 1901، يكتشف ما ارتكبته من جرائم صحية - غذائية بالتعاون مع «مؤسسة روكفلر» والرؤساء الأميركيين (وخصوصاً ريغان وصداه البريطاني مارغريت تاتشر وبيل كلينتون وآل بوش) وتشريعات الكونغرس، بهدف السيطرة على الغذاء العالمي من خلال «التعديل الجيني الزراعي» لتقرّر مصير البشرية من خلال أنابيب أبحاثها المشبوهة.
أضف إلى ذلك، الكتاب الأخطر «بذور التدمير» (Seeds of Destruction)، لمؤلفه ويليام انغدال، حول أسرار التعديل الجيني البشري - الحيواني - الزراعي للتحكم بموارد القوة العالمية، ووضع العلم بتصرّفها المطلق تحت شعارات زائفة كالديمقراطية وحقوق الإنسان، ناهيك عن النظرية الشهيرة لهنري كيسنجر: «سيطر على النفط تسيطر على الدول، وسيطر على الغذاء تسيطر على الشعوب»، كما الحضور الدائم والكبير لأسرة روكفلر في تمويل ما سمّته «الثورة الخضراء»، مع ثلاث شركات عالمية ضخمة بيولوجية - كيميائية تسيطر على القسم الأكبر (ذرة وصويا وأرز وقمح وقطن وفاكهة) من مصادر التغذية العالمية (بعد سيطرة الاحتلال الأميركي في العراق أصدر قراراً رقمه 90/1 بفرض البذور الزراعية الأميركية المعدّلة جينياً، ما أنتج ولا يزال عقماً وتشوّهات خلقية وأمراضاً سرطانية).
من يراجع كل ذلك، مستذكراً قول كيسنجر عام 1974: «انتهت حقبة الحروب التقليدية، وجاء دور الحروب البيولوجية – الفيروسية»، ومع وجود 400 مختبر بيولوجي أميركي، وكلام وزير الدفاع الأميركي روبرت ماكنمارا عام 1979 عن ضرورة خفض عدد سكان العالم لأنه يشكل العبء الأكبر على التنمية البشرية، يتيقن من حقيقة «تصنيع» فيروس «كورونا» لأهداف شريرة تأتي في سياق الهدف الأساس، وهو السيطرة على العالم وثرواته وتعديل التركيبة البشرية من خلال التخلّص من كبار السنّ وتكاليف رعايتهم الصحية...

* رئيس هيئة «الصحة حقّ وكرامة».