قبل أسابيع، أصدر البنك الدولي تقرير «الآفاق الاقتصادية العالمية» الذي تطرّق إلى تشكّل موجات تراكم الديون العالمية واحتمال تحوّلها إلى أزمات مالية، مشيراً إلى أن الدين العالمي بلغ 185 تريليون دولار في 2018 وبات يوازي 230% من الناتج العالمي وأن الموجة الأخيرة انطلقت من الأزمة المالية العالمية في نهاية 2008. هذه المخاوف لم تكن مبنية على ظهور «كورونا»، بل كانت بمثابة تحذير من أزمة «نائمة» اقتصر دور الوباء على تفجيرها. «كان هو الشرارة وليس السبب» بحسب المؤرّخ البلجيكي إيريك توسان. لكن بذريعة «كورونا»، عادت الولايات المتحدة إلى التدخّل في السوق وطباعة الدولارات لتمويل خسائر الشركات. هي خطوة سياسية على أبواب معركة دونالد ترامب للولاية الرئاسية الثانية، إلا أنها تخفي انكساراً جديداً للرأسمالية التي تدخّلت في 2009 لإنقاذ المصارف وشركات التأمين، وها هي اليوم تكرّر تجربتها عبر استعمال المال العام لإنقاذ الشركات، لا بل ستقوم بتأميمها في بعض دول أوروبا.
استغلال «كورونا»
خلال بضعة أسابيع من ظهور «كورونا» خسرت الأسهم والسندات المدرجة في البورصات العالمية أكثر من 17 تريليون دولار؛ من بينها 7.2 تريليونات دولار خسائر الأسهم المدرجة في الولايات المتحدة وحدها. هل «كورونا» مسؤول عن كل هذه الخسائر، أم أن بنية الأسواق العالمية واقتصاداتها كانت هشّة إلى درجة انهيارها بعد أول حدث؟
يعتقد توسان أنه يجب التمييز بين الشرارة التي أطلقت الأزمة، وبين أسباب الأزمة. فمسألة ظهور الفيروس هي الشرارة وليس الأسباب التي كانت مرصودة منذ سنوات. يستدلّ توسان على هذا الأمر بما ورد في صحيفة فايننشال تايمز في 26 شباط: «كان ترامب يدعو الأميركيين الأثرياء إلى مساندته انتخابياً والتوقف عن بيع أسهمهم». بحسب «فايننشال تايمز»، قال لهم: «السوق سوف تقفز آلاف وآلاف النقاط إذا فزت... وإذا لم أفعل، فسترون انهياراً لم تروه من قبل. أنا حقاً أعني ذلك».
يومها لم يكن «كورونا» قد وصل إلى الولايات المتحدة، بل كان يُستغلّ خارجياً بوجه الصّين، ومحلياً ضدّ خصوم ترامب. غير أن هذا الاستغلال ليس سوى ظاهر المشكلة. فما يحصل في بنية هذه الأسواق المنفوخة بالأموال التي ضخّتها الحكومات منذ 2009 إلى اليوم، أن شركات الاستثمار الكبيرة والمصارف والأثرياء استثمروا في أسهم أو سندات دين عائدة للقطاع الخاص، إلا أنهم أدركوا أن دورة الربح شارفت على النهاية، وأن تحقيق الأرباح يستوجب تصفية هذه الاستثمارات. في المقابل، «اشتروا سندات الدين الأميركية ما أدّى إلى ارتفاع أسعارها وانخفاض العائد عليها. هم على استعداد للقبول بعائد متدنٍّ مقابل الأمان». الأمان الذي تتمتع به السندات الأميركية السيادية يكمن في أنها تحمل أعلى تصنيف موجود لدى وكالات التصنيف وهي مرتبطة بالدولار كعملة عالمية.

فيروس الرأسمالية
إذاً، ما هي أسباب الأزمة الفعلية؟ توسان توقّع في مقالة نشرها في 2017 على موقع «الشبكة الدولية من أجل إلغاء الديون غير الشرعية»، أن الأزمة المالية مقبلة بعدما زادت مديونية القطاع الخاص في أميركا بقيمة 7800 مليار دولار بين 2010 و2017، لافتاً إلى ظهور فقاعة الديون الاستهلاكية الخاصة بصناعة السيارات الأميركية مع تجاوز قيمتها 1200 مليار دولار، مع نسبة تخلّف عن السداد تبلغ 7.5%، فيما ديون الطلاب في أميركا تجاوزت 1350 مليار دولار في عام 2017 وبلغ التخلّف عن السداد 11%...
كلام توسان الذي يتوافق مع توقعات البنك الدولي عن «موجة ديون عالمية قد تتحوّل إلى أزمة مالية»، سبقه بروز مؤشرات عن تباطؤ القطاعات الإنتاجية في ألمانيا واليابان وفرنسا وإيطاليا والصين والولايات المتحدّة. فعلى سبيل المثال، انخفض إنتاج السيارات الألمانية بنسبة 14% وتقلص إنتاج الآلات والمعدات المنتجة بنسبة 4.4%. وفي 2019 تباطأ الإنتاج في الصين والهند، وسجّل ركود في جزء كبير من دول أوروبا بسبب انكماش الطلب العالمي الناجم عن سياسات خفض الأجور والمعاشات التقاعدية التي قلّصت الاستهلاك المموّل بديون الأسر.
عملياً، إغراق الأسر بهذه الديون رفع معدلات الاستهلاك، فواجهته الحكومات بتقليص المداخيل، وتقشّف الحكومات الذي أدّى إلى خفض الاستثمار العام وما ترتّب عليه من أثر اقتصادي سلبي.
قبل ظهور «كورونا» في أميركا، كان ترامب يطلب من زملائه الأثرياء التوقف عن بيع الأسهم والسندات


دورة كهذه كان لا بدّ من أن تنتهي بأزمة. ربما أتى «كورونا» ليبعد الأنظار عن الأسباب الجذرية للأزمة. فهل سبّب الوباء فعلاً تعليق وقف إنتاج «فولسفاكن» في أوروبا، وتعليق «إيرباص» الإنتاج في فرنسا وإسبانيا؟ رغم هذه التساؤلات، إلا أن الفيروس سلّط الضوء على أمر بالغ الأهمية: عودة الحكومات الغربية إلى التدخّل في السوق للمرّة الثانية بعد الأزمة المالية العالمية في نهاية 2008. فلم يطل الأمر كثيراً بعد ظهور«كورونا» في أميركا، حتى أعلن ترامب رغبته في التدخّل في السوق. «واشنطن بوست» أشارت أول من أمس إلى أن ترامب سيطلب من الكونغرس الموافقة «على سلّة دعم للاقتصاد الذي ينهار» بقيمة 850 مليار دولار. سيتم تمويل هذه السلّة من الضرائب أو آليات أخرى، وسيخصص منها 50 مليار دولار لدعم صناعة الطائرات.
المفاجئ أن وزير المال الفرنسي برونو لو مير أعلن أن حكومته مستعدّة لطرح جميع السبل «لدعم الشركات الكبرى بما فيها التأميم»، فيما نقلت «رويترز» إمكان لجوء إيطاليا إلى «تأميم الخطوط الجوية الإيطالية وأن الحكومة ستخصص 600 مليار يورو لدعم قطاع الطيران غالبيتها لشركة أليتاليا، وأنه سيتم تأسيس شركة جديدة تديرها وزارة الاقتصاد».
عملياً، بدأت الحكومات المتضرّرة تستعمل السياسات المالية، أو بمعنى آخر، الضرائب المحصّلة من المال العام من أجل تمويل خسائر الشركات. طبعاً، الأمر يختلف بين أميركا وأوروبا، تبعاً للظروف السياسية في كل بلد ومنطقة، ونوع المصالح والعلاقات بين الشركات والطبقة الحاكمة. ففي فرنسا رئيس الجمهورية إيمانويل ماكرون يمثّل هذه الطبقة مباشرة، وترامب يمثّلها أيضاً، لكن طبيعة هذه المصالح مختلفة في دول أوروبية أخرى مثل إيطاليا وألمانيا.
في العادة، تستخدم أموال الضرائب أو السياسات المالية من أجل دعم الأجور، لكن في الولايات المتحدة وبعض دول أوروبا يحصل العكس تماماً، إذ تستخدم اليوم من أجل دعم رأس المال!

استنزاف الموارد
طبعاً، لا يمكن الادعاء أن وباء مثل «كورونا» سيمرّ من دون استنزاف موارد الدول. ففي الواقع، يشير مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية إلى أن مدى الضرر الاقتصادي الناجم عن انتشار الفايروس مرتبط بمدى سرعة احتوائه عالمياً. «فمن المحتمل أن تكون أوروبا واليابان في منطقة ركود بالفعل نظراً إلى أدائها الضعيف في الربع الرابع واعتمادها الكبير على التجارة. فيما دخلت الولايات المتحدة الأزمة مع الرياح المعاكسة، يتوقع بعض المحللين حدوث انكماش في الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة في الربع الثاني» بحسب الباحثين في المركز.
ويشير المركز إلى أن الوباء أحدث صدمات في الطلب والعرض. فعلى سبيل المثال، ستكون السياحة والصناعات المرتبطة بالسفر من بين أكثر القطاعات تضرراً، حيث تُشجع السلطات «المسافة الاجتماعية» ويبقى المستهلكون في منازلهم. ويحذر الاتحاد الدولي للنقل الجوي من أن الفيروس سيكبّد شركات النقل الجوي العالمية خسائر في الإيرادات تتراوح بين 63 مليار دولار و113 مليار دولار، فيما قد تخسر سوق الأفلام الدولية أكثر من 5 مليارات دولار من مبيعات التذاكر. كما أن أسهم شركات الفنادق الكبرى تراجعت، فيما يتوقع أن يتلقى عمالقة الترفيه مثل «ديزني» ضربة كبيرة للإيرادات، والأمر نفسه ينسحب على المطاعم والأحداث الرياضية والخدمات الأخرى. وستكون الصناعات الأقل اعتماداً على التفاعل الاجتماعي المرتفع، مثل الزراعة، أقل عرضة للخطر نسبياً.

مهنة التسوّل محلياً
هكذا يبدو المشهد في العالم، إلا أنه مختلف في لبنان. فقد ناقش مجلس الوزراء في جلسته أول من أمس «عنواناً أساسياً» كما قالت وزيرة الإعلام منال عبد الصمد، هو «هاجس فيروس كورونا الذي يتحكّم بأولويات الحكومة وأولويات الناس»، مشيرة إلى أنه اتفق على «إنشاء صندوق خاص لقبول التبرعات من اللبنانيين ومن غير اللبنانيين لمواجهة هذه الأزمة»، وأن الحكومة تدعو «كل شخص في لبنان أو خارجه إلى المساهمة في هذا الصندوق في هذه المرحلة الصعبة».



خسائر بقيمة 50 مليار دولار
يقول تقرير تقني صادر عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد) إن انكماشاً في إنتاج الصين بنسبة 2% له آثار مضاعفة تظهر على مجمل انسياب الاقتصاد العالمي، تسبّبت حتى الآن في انخفاض يقدّر بنحو 50 مليار دولار أميركي في التجارة بين الدول. ويشير إلى أن القطاعات الأكثر تضرراً من هذا الانخفاض تشمل «صناعة الأدوات الدقيقة والآلات ومعدات السيارات وأجهزة الاتصالات». هذا الأمر ناتج عن كون الصين أصبحت خلال العقدين الماضيين «أكبر مصدِّر في العالم وجزءاً لا يتجزأ من شبكات الإنتاج العالمية قد وطدت نفسها كمزوّد رئيسي للعديد من مدخلات ومكونات المنتجات المختلفة، مثل السيارات والهواتف المحمولة والمعدات الطبية، وغيرها». فالصين تلعب دوراً مهماً في إنتاج السلع وتوريدها لجميع أنحاء العالم، لذا فإن «أي خلل في الصين سيُشعر به أيضاً خارج حدود البلاد».


قروض البنك الدولي وصندوق النقد


لم تمرّ بضع أسابيع على انتشار فيروس كورونا، حتى أصدر صندوق النقد الدولي ومجموعة البنك الدولي ما سمّياه «رسالة تضامن مشتركة» تتضمن استعدادهما «لمساعدة دولنا الأعضاء» عبر «تمويل حالات الطوارئ، وتقديم المشورة بشأن السياسات والمساعدة التقنية».
من جهته، طلب البنك الدولي من الحكومات تجنّب السياسات الحمائية وفرض قيود على الصادرات من الأغذية والمنتجات الطبية الضرورية، مشجعاً البلدان النامية على مساندة القطاع الخاص، والمصارف المركزية على التحرّك لتهدئة اضطرابات الأسواق. يمكن تفسير «النصيحة» الأخيرة بأنها دعوة لدعم الشركات والأثرياء، فيما الفقراء يُنصح لهم لـ«تحويلات نقدية وخدمات مجانية للأشد احتياجاً». وأقرّ البنك الدولي حزمة تحفيز بقيمة 12 مليار دولار للبلدان النامية، من أجل تقوية الأنظمة الصحية.
أما صندوق النقد الدولي، فقد ركّز على تنفيذ إجراءات جوهرية موجهة على مستوى المالية العامة والسياسة النقدية، والسوق المالية، لمساعدة الأسر ومنشآت الأعمال المتضررة، مشيراً إلى التنشيط النقدي الأوسع نطاقاً، كخفض أسعار الفائدة الأساسية أو شراء الأصول، عارضاً استعداده لإقراض البلدان الناشئة والمنخفضة الدخل بقيمة 50 مليار دولار.