رُسمت خريطة طريق الانسحاب الأميركي مِن أفغانستان في محاولة لطيّ صفحة الحرب الأميركية الكُبرى. بتوقيع «اتفاق تاريخي» بين واشنطن و«طالبان»، تكون الولايات المتحدة، وإن حاولت الظهور بهيئة المُنتصر، قد اعترفت بخسارة حربٍ شكَّلت اللبِنَة الأولى لكثير من الخراب اللاحق بالمنطقة. اتفاق ليس مثالياً، «لكنّه أفضل أمل لإنهاء الحرب»، كما اختصره روبرت مالي، لكن دونه الكثير من العقبات المرتبطة أولاً بالوضع الداخلي الأفغاني، وعدم جاهزية الطرف الآخر الذي ظلّ مستبعداً مِن عملية التفاوض، لتقديم ما يعتقد أنها تنازلات على طريق السلام.تحوّلت أفغانستان مِن «الحرب الجيّدة» التي ستكسبها الولايات المتحدة، إلى عبءٍ طال أمده، حتى صار هاجس الأميركيين، كالذين سبقوهم، التخلُّص مِن هذا الحِمل. لا شكّ في أن أولوية الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، يمكن اختصارها على النحو الآتي: اتفاق سلامٍ يُمكنه بعده الادّعاء بأنه وفى بتعهّده سحب القوات الأميركية مِن حربٍ طاحنة تواصلت على مدى عقدين. لن يكون ترامب أوّل رئيس يبالغ في تعريف معنى الهدنة في عام الانتخابات، يقول جوزيف ناي، الأستاذ الفخري في جامعة هارفرد. في خضمّ انتخابات عام 1972، يلاحظ ناي أن «(ريتشارد) نيكسون قدَّم ادّعاءات كبيرة حول سلام وشيك في فييتنام»، إلا أن أفغانستان في عام 2020 مدفوعة بديناميات مختلفة عن فييتنام قبل نصف قرن. ثلاثة رؤساء أميركيين وعدوا على التوالي بتحقيق «النصر»، وكلّهم فشلوا. بدأ جورج دبليو بوش الحرب الأفغانيّة لتعقُّب أسامة بن لادن في الأسابيع التي تَلت هجمات 11 أيلول/ سبتمبر، لكنه سرعان ما وجّه انتباهه إلى العراق. مثّلت هذه الحرب «تجربةً» لتأجيج حربه التالية. باراك أوباما، بدوره، وصف حرب العراق بـ«الخطأ الاستراتيجي»، لكنّه تعهّد بألّا تخسر أميركا «الحرب الجيدة» في أفغانستان. وظلّ ترامب ينتقد تكلفة «الحروب التي لا تنتهي»، لكنّه كان يعلم أن الناخبين الأميركيين مهتمون بأمرٍ واحد: إنهاء المشاركة في حربٍ طويلة لا تزال أهدافها تتبدّل.

خريطة طريق
بعد أكثر من عام مِن المفاوضات الشاقّة، وقّعت الولايات المتحدة و«طالبان» «اتفاق إحلال السلام في أفغانستان». بموجبه، تبدأ واشنطن وحلفاؤها انسحاباً تدريجياً، بخفض عديد الجنود الأميركيين مِن 13 ألفاً إلى 8600 خلال 135 يوماً وانسحاب قوّاتها بشكلٍ كامل مِن خمس قواعد عسكرية (لدى الجيش الأميركي حالياً نحو 20 قاعدة في أنحاء البلاد)، وبشكلٍ متكافئ عديد قوّات حلفائها في «الأطلسي». وفق الإطار الزمني المُحدَّد، تنسحب جميع القوات الأجنبية في غضون 14 شهراً، لكنّ تنفيذ ذلك مرتبط بمدى تطبيق «طالبان» بنود الاتفاق والتقدُّم المُحرز في المفاوضات السياسية الداخلية التي تنطلق في العاشر من آذار/ مارس الجاري. مفاوضاتٌ تمثِّل التحدّي الرئيس في عملية السلام، كونها مهدّدة بالخلاف الذي أثارته نتائج انتخابات الرئاسة الأفغانية، بعدما أعلن كلٌّ من أشرف غني وعبد الله عبد الله فوزهما بها. ويكمن التحدّي في صعوبة تشكيل وفدٍ موحّد يجمع الحكومة الأفغانية والمعارضة والمجتمع المدني، في ظلّ الخلافات القائمة حول نتائج الانتخابات، إذ يُحذِّر مراقبون من أن المفاوضات التي مِن المقرّر أن تفتتح في أوسلو، قد تستمرّ لسنوات بسبب الخلافات العميقة بين الأطراف الأفغانيين. كذلك، تضع حكومة كابول «وقف إطلاق النار» شرطاً رئيساً لأي عملية تفاوض، لكن الشرط هو مجرّد «بند» على جدول أعمال المحادثات، وفق نص الاتفاق، ما يعني أنه ليس إجبارياً، إذ سيناقش المشاركون في المحادثات «موعد ووسائل (تطبيق) وقف دائم وشامل لإطلاق النار»، بما في ذلك آليات التنفيذ المشتركة التي سيتم الإعلان عنها مع الانتهاء والاتفاق على مستقبل الخريطة السياسية لأفغانستان. وينص اتفاق الأميركيين و«طالبان» على تبادل آلاف الأسرى في «إجراء لبناء الثقة» يتوقّع أن يتزامن مع انطلاق المحادثات الداخلية. وفي مؤشّر على وجود عراقيل أمام تطبيق الاتفاق وغضب غني الذي تجاهلت واشنطن تهنئته على فوزه، رأى الأخير أن أيّ عملية إفراج عن السجناء «ليست ضمن صلاحيات الولايات المتحدة، بل هي من صلاحيات الحكومة الأفغانية»، إذ «يمكن إدراج المسألة على أجندة المحادثات الأفغانية الداخلية، لكن لا يمكن أن تكون شرطاً مسبقاً للمحادثات». تشكُّك غني وغضبه الدائم إزاء ما يجري من حوله، أوضحه بنفسه أثناء مشاركته في «مؤتمر ميونيخ للأمن»: لست واثقاً من قرب إنجاز الاتفاق. لكن واشنطن لم تتجاهله تماماً، بل أقامت له حفلاً موازياً في كابول حضره وزير الدفاع الأميركي، مارك إسبر، رافقه الأمين العام لـ«الأطلسي» ينس ستولتنبرغ، لطمأنة الرئيس بأن القوات الأميركية وقوات «الناتو» لن تذهب إلى أي مكان، حتى تتوصّل الحكومة الأفغانية و«طالبان» إلى اتفاقهما.
المحادثات الداخليّة مُهدّدة بالخلاف الذي أثارته نتائج انتخابات الرئاسة الأفغانيّة


وتعهّدت الولايات المتحدة بدء مراجعة قائمة العقوبات الحالية التي تستهدف قادة «طالبان» وأعضاء الحركة، بهدف رفع هذه الإجراءات بحلول 27 آب/ أغسطس 2020، على أن تبدأ بـ«التواصل دبلوماسياً» مع أعضاء مجلس الأمن الدولي وحكومة كابول لشطب الحركة مِن قوائم العقوبات. ويحضّ الاتفاق على منع تنظيم «القاعدة» من استخدام أفغانستان منصة لتهديد أمن الولايات المتحدة والدول المتحالفة معها. كذلك، ينص أن على الحركة منع هذه المجموعات من «التجنيد والتدريب وجمع الأموال»، وأن عليها عدم استضافتها في البلاد، لكنه لا يشير إلى التبرّؤ علناً من التنظيم أو قطع الصلات به رسمياً.

لا خطة بديلة
تلقّت مساعي الرئيس الأميركي للفوز بولاية رئاسية ثانية دفعة كبيرة؛ هو يتحدّث عن هدف واحد فقط: الخروج من أفغانستان، ويعلم أن معظم الأميركيين يساندونه. يقول ستيفن تانكيل الذي عمل على القضايا الأفغانية في «البنتاغون» ومجلس النواب: «ربما يكون ترامب مهتماً بالحصول على صفقة تسمح له بالبدء في الانسحاب قبل يوم الانتخابات أكثر من اهتمامه بمعايير هذه الصفقة»، لكن «ليس واضحاً ما هي الخطة بالنسبة إلى الجنود الأميركيين المتبقين والبالغ عديدهم 8600، في حال تعثّرت عملية السلام الأفغانية».
عندما سينظر المؤرّخون إلى الفترة الراهنة، ربّما يستنتجون، وقتها، أنه انتهى الأمر بأميركا مثل القوى العظمى الأخرى التي دخلت جبال أفغانستان الوعرة وصحاريها: محبطة، ومشلولة الحركة، ولم تعد مستعدة لتحمُّل التكاليف الباهظة. تراجعت القوات البريطانية في عام 1842 بعدما خسرت 4500 جندي، وتخلّى هؤلاء عن سيادتهم على البلاد في عام 1919، في تراجع آخر بشّر ببداية تفكُّك الإمبراطورية. أما السوفيات فانسحبوا قبل أشهر من انهيار الاتحاد السوفياتي، وبعد عقد سعوا خلاله للسيطرة على البلاد.