يرتفع منسوب التصعيد تجاه إيران بشكل متواتر. ضاع التوتر النووي في ضجيج عملية بغداد والردّ الإيراني الذي طغى على الأخبار العالمية وتَصدّر العناوين العامة. طهران نفّذت «الخطوة الخامسة» من خفض تعهداتها النووية قبل أسبوعين، ما دفع بالأميركيين إلى تلقّف هذه الخطوة لدفع «الترويكا» الأوروبية إلى ساحة المواجهة، بعد اقتناع أوروبي بأن استهداف إيران للوجود العسكري الأميركي سيطاول وجود حلف «الناتو» والمصالح الأوروربية في المنطقة بشكل أو بآخر. انتهت الجولة الأولى من الصراع الأميركي ــــ الإيراني بعد 14 يوماً من التضارب المباشر. الكل يقيّم نتائج هذه الجولة ويتهيّأ للمرحلة المقبلة، فيما سينتقل الصراع على الملف النووي إلى الواجهة في معركة يمكنها أن ترفع مستوى التهديد ضدّ إيران من دون الحاجة إلى التلويح بالحرب. الترويكا الأوروبية عادت إلى التكتل كما فعلت في عام 2003، عندما دفعت إيران إلى توقيع «اتفاقية سعد آباد» التي أخرجت البرنامج النووي من دائرة الخدمة كلّياً، وأخلت المنشآت النووية من أجهزة الطرد المركزي، لتعود طهران في عام 2005 إلى نزع الأختام واستئناف المشروع ليصل إلى 11 ألف جهاز طرد مركزي بمعدّل تخصيب يورانيوم وصل إلى 20% نهاية 2012. الخطوات الإيرانية ينقصها حالياً رفع مستوى التخصيب من 4.5% إلى 20% لتعود إيران إلى مرحلة 2015، أي إلى ما قبل الاتفاق النووي. إذاً، «خطة العمل المشتركة» دخلت في المراحل الأخيرة من الموت السريري، وقد تُعلَن وفاتها قريباً عبر تفعيل الترويكا الأوروبية لـ«آلية فض النزاع»، والهدف الرئيسي من هذا التحرّك هو إعادة الملف النووي إلى الواجهة من جديد لتحقيق أهداف واشنطن بفرض اتفاق جديد على طهران وفق رؤية إدارة ترامب، التي سعت منذ وصول الأخير إلى تحقيق هدفين أساسيين: الأوّل، منع إيران نهائياً من الاستفادة من الأنشطة النووية حتى للأهداف السلمية؛ والثاني، استهداف المشروع البالستي عبر ضربه أو وقفه أو تعطيله بالحدّ الأدنى لما يشكّله من تهديد جدّي للقوات الأميركية وحلفائها في المنطقة وخاصة إسرائيل.
الهدف الأول برز من خلال رفض ترامب المهلة الزمنية التي يمنحها الاتفاق النووي لإيران لإيقاف أنشطتها النووية طوعاً حتى نهاية 2025. فالإسرائيليون والأميركيون يشعرون بأنه بعد هذا التاريخ لا يمكن السيطرة على ما يصفونه بطموحات إيران النووية. يدركون جيّداً أن إيران لن تصنع قنبلة نووية، لكن مجرّد امتلاكها لتقنيات التصنيع سيجعل منها رقماً صعباً في المنطقة، ويجعل من مهاجمتها أمراً مستحيلاً، على الرغم من الاقتناع الحالي بأن الحرب في الظروف الراهنة تعدّ صعبة جداً ضدّ إيران لما تمتلكه الأخيرة من أسلحة تقليدية. لذا، يسعى الأميركي الى أن تكون فترة وقف إيران لأنشطتها أكبر بكثير من السنوات الخمس المتبقية، وهو يتطلع إلى تعطيل برنامجها نهائياً أو وقفه لمدّة زمنية قد تطول لأكثر من 20 عاماً، وهو ما ترفضه طهران، وترفض العودة إلى التفاوض لعلمها جيداً بأن هذا النوع من التفاوض سيكون الحلقة الأولى التي يريدها الأميركيون للدخول في سلسلة تنازلات قد لا تنتهي. وموضوع التفاوض المباشر مع الأميركيين مرفوض إيرانياً، فيما التفاوض مع السداسية الدولية قابل للنقاش إذا عادت الولايات المتحدة إلى الاتفاق.
المساعي الأميركية ستزيد من التحرّك الإيراني بوجه واشنطن في المنطقة


الثاني، هو القوة الصاروخية الباليستية. الاتفاق النووي حثّ إيران على عدم تطوير وتجربة الصواريخ المصمّمة لحمل «رأس نووي». وكان من الذكاء الإيراني إدراج عبارة «مصممة»، فإيران ليس لديها قنبلة نووية حتى تسعى إلى إنتاج صواريخ مصمّمة على حمل رأس نووي، فيما الصواريخ الباليستية «قادرة» على حمل رؤوس غير تقليدية، وبالتالي لا يمنع القرار الأممي إيران من حيازة أسلحة باليستية دفاعية غير مصمّمة للاستخدام النووي. فقدرة الصواريخ الإيرانية على حمل رؤوس حربية متنوعة جعلتها خارج النقاش، وبالتالي حرمت الأميركيين من فرصة فرض عمليات تفتيش، تحت حجة الباليستي، للمنشآت العسكرية، وبالتالي ضرب هذه القوة التي تشكّل تهديداً وجودياً للكيان الإسرائيلي، وهو مطلبٌ تَعزّز بعد ضربة «عين الأسد» في العراق.
لم تستطع الولايات المتحدة، على مدى أكثر من ثلاث سنوات، تغيير الاقتناع الإيراني بعدم التفاوض مجدداً. الإدارة الأميركية السابقة عدّت تلك التنازلات الإيرانية التي تضمّنها الاتفاق إنجازاً: إغلاق منشأة التخصيب في «فوردو»، إيقاف بعض أجهزة الطرد المركزي في «نطنز»، إزالة قالب مفاعل «أراك» للمياه الثقيلة، مخزون اليورانيوم، ومستوى التخصيب. كلّ ذلك عدّته واشنطن حينها خسارة إيرانية مدوّية. لكن ظهر العكس للأميركيين، بأن ما خسره الإيراني على رغم أنه كان مهماً ولكنه كان فاعلاً في المدى القصير، فيما كانت المكتسبات الإيرانية فاعلة على المستوى البعيد. فما تحقق يُعدّ إنجازاً للمفاوض الإيراني، وهذا ما أدركه دونالد ترامب فانسحب من الاتفاق وهو يحاول إيقافه بالعقوبات والحصار الخانق. واليوم، يحاول استدراج الأوروبيين إلى إعلان وفاة الاتفاق، وإعادة الملف إلى مجلس الأمن حيث سيكون الصراع حادّاً بين الترويكا الأوروبية والولايات المتحدة من جهة، وروسيا والصين من جهة أخرى.
الهدف الحالي هو إجبار إيران على الخروج من الاتفاق لتُمسك واشنطن بورقة العقوبات الأممية والدولية، وتتوسّع البلطجة السياسية ضدّ الجمهورية الإسلامية عبر الأمم المتحدة وأمام المجتمع الدولي. لكن تلك المساعي ستزيد من التحرّك الإيراني بوجه واشنطن في المنطقة، وسترفع من مستوى التحدّي، بحيث تردّ إيران على كلّ خرق أميركي ضدّها على أرض الميدان بما يتناسب مع قواعد الاشتباك وموازين القوى التي بدأت في «عين الأسد».