لا يحتاج المراقب إلى معلومات محدّدة ليستنتج أن قرار الردّ الصاروخي الإيراني على قاعدة «عين الأسد» الأميركية تبلور في أعقاب دراسة مروحة من الخيارات، لمواجهة التهديد المستجدّ والناتج من انتقال الولايات المتحدة إلى مرحلة المبادرة العملانية المباشرة ضدّ وجود إيران في المنطقة. من الواضح أن استبعاد الخيارات البديلة لم يكن إلا نتيجة ما خلصت إليه القيادة الإيرانية بعد بحث مفاعيلها، وفق قاعدة الكلفة والجدوى. وتحضر، في هذا السياق، مجموعة عناوين ومبادئ تحكم السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية، وتجعلها تتمايز في رؤيتها وتقديراتها، مُتسبّبة في أكثر من محطة بإرباك رهانات أعدائها الإقليميين والدوليين. فما هي هذه الخيارات التي يُفترض أنها طُرحت في طهران؟ ولماذا استُبعدت؟ الخيار الأول الذي ينطوي على الحدّ الأدنى من المخاطر، والذي راهنت عليه كلّ من واشنطن وتل أبيب، هو أن تمتنع إيران، ولو مؤقّتاً، عن الردّ العسكري المباشر. كان أمامها، تحت سقف عدم تحمّلها مسؤولية مباشرة، عدة سيناريوات من شأنها تجنيب المنطقة مواجهة مباشرة قد تتدحرج إلى حرب. ومن بين تلك السيناريوات، مثلاً، الردّ عبر عمل أمني من دون بصمات، والردّ عبر الحلفاء، وصولاً إلى ضرب مصالح اقتصادية، أو شنّ هجوم رمزي على هدف أميركي. كلّها سيناريوات تتّسم بكونها أقلّ دراماتيكية من سواها، ومنطوية على منسوب مخاطرة أدنى مما حمله قرار استهداف «عين الأسد». أما الخيار الثاني، فهو الاستهداف المباشر لدائرة أوسع من المصالح الأميركية في الخليج وخارجه. وهو خيار يتّسم بكونه أكثر تشدداً مما سبق ذكره، وربما لم يكن ليترك أمام الولايات المتحدة سوى الاندفاع قهراً نحو مواجهة مباشرة. فماذا يعني استبعاد هذين النوعين من الخيارات؟
في ما يتصل بالردّ العسكري الواسع، كان يمكن توقع ردّ أميركي على الردّ ربما يهدّد وجود النظام وإمكاناته الاقتصادية والعلمية والعسكرية. إذ ربّما أدى إلى استدراج مزيد من الاعتداءات الأميركية، وبمنسوب أعلى وأشدّ، وهو ما كان سيؤدي إلى زيادة الضغوط على الجمهورية الإسلامية بدلاً من توقفها، ووضعها مجدداً أمام استحقاق الردّ أو التراجع تجنباً لردّ أميركي، وصولاً إلى التنازل عن ثوابتها. انطلاقاً من ذلك، واستناداً إلى أولوية حفظ النظام، جاء الردّ الإيراني كاشفاً عن رؤية محدّدة في الموازنة بين مخاطر الردّ وعدمه. أما السيناريوات المندرجة تحت الخيار الثاني (عمل أمني، ردّ عبر حلفاء...)، فهي كان من شأنها إضعاف الحافز الأميركي للردّ المضادّ، وإفساح المجال أمام الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، لتجنّب التدحرج نحو مواجهة مباشرة. لكن عزوف القيادة الإيرانية عن تلك الخيارات، التي تنطوي على منسوب أمان أعلى لإيران كدولة، يعود إلى كونها غير تناسبية مع اعتداء عسكري أميركي مباشر، ما قد يوصل رسالة ضعف، ويعطي انطباعات غير صحيحة عن القيادة الإيرانية، ويوهم القيادة الأميركية وحلفاءها بأن طهران متردّدة، وتخشى المواجهة المباشرة حتى لو تمّ استهدافها، وهو ما سيرفع منسوب جرأة الولايات المتحدة على خطوات عدوانية لاحقة، فضلاً عن أنه يتنافى مع أولوية تعزيز قدرة الردع الإيرانية حتى ولو كان الثمن التدحرج نحو مواجهة مباشرة سعت الجمهورية وتسعى إلى تفاديها، لكن ليس بأيّ ثمن.
نجحت طهران في تجسيد شجاعتها، وفي الوقت نفسه حفظ مصالح الدولة


كَشَف تجنّب إيران تبنّي خيارات أكثر دراماتيكية، مع أنها كانت قادرة عليها عبر توسيع نطاق الاستهداف في العراق والخليج والمناطق المحيطة بالجمهورية في البرّ والبحر مثلاً، أنها عملت على ألّا تدفع الطرف الأميركي نحو المواجهة قهراً، بما يتعارض مع مصالحها الاقتصادية والعسكرية والردعية. كما أن هدفها كان إسقاط رهانات الولايات المتحدة على ارتداعها عن الردّ المباشر، وكسر هيبتها، ورفع منسوب القلق لدى قادتها من أن تكرار الهجمات المباشرة سيؤدي إلى ردود مباشرة أخرى، قد تكون أكثر خطورة وإيلاماً، وربما تدفع إلى مواجهة واسعة أيضاً. مع ذلك، لم يكن مضموناً تجنّب الطرف الأميركي الردّ على الضربة الصاروخية، بل كان يُفترض، وفق المصالح التي هدفت الولايات المتحدة إلى تحقيقها، أن يكون هناك ردّ على الردّ من أجل تعزيز قدرة الردع، وتدفيع إيران ثمن جرأتها على استهداف عسكري صاروخي لقاعدة عسكرية فيها آلاف الجنود. لكن هذا الاحتمال لا يتعارض مع كون الضربة راعت توفير أرضية عدم التدحرج نحو حرب مباشرة، ما دام الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، يرى أن مصلحته تجنّب السيناريو المذكور، مع الإشارة إلى أن الخيارات الأكثر دراماتيكية كانت ستمنح الطاقم الصقوري في البيت الأبيض ورقة إضافية للتأثير في الرئيس ودفعه نحو المواجهة.
هكذا، جاء الردّ بأيدٍ إيرانية، وانطلاقاً من أراضي البلاد (في مقابل نظرية الردّ عبر الحلفاء)، وضدّ قاعدة عسكرية أميركية (في مقابل نظرية استهداف مصالح اقتصادية لبعض الحلفاء أو حتى للولايات المتحدة)، وبشكل عسكري صاروخي مباشر (في مقابل نظرية العمل الأمني)، وبصورة قاسية ومدوّية، لكن محدودة، قياساً إلى الردّ الشامل الذي يؤدي إلى مواجهة واسعة. وعليه، يتّضح أن القيادة الإيرانية نجحت في تجسيد حزمها وشجاعتها في اتخاذ القرار، وفي الوقت نفسه، حرصت على أقصى درجة ممكنة من العمل على حفظ مصالح الدولة، مع تأكيد ثباتها على خياراتها الاستراتيجية، وإيصالها رسالة مدوّية إلى أعدائها بأن أيّ استهداف مباشر لها ستواجهه عسكرياً ومباشرة، حتى لو كان ذلك ينطوي على درجات متفاوتة المخاطر. وفق المنهجية نفسها، يمكن استشراف الخيارات التي حضرت أمام ترامب وطاقمه في الردّ على الردّ الصاروخي الإيراني، والتي اختار من بينها الامتناع عن الردّ المضاد. هذا يؤشّر، بدوره، إلى إقرار المؤسسة الأميركية بحزم إيران في الردّ على أيّ ضربة إضافية، ويؤسّس لمعادلة لم تكتمل معالمها حتى الآن، لكن يُتوقع أن تحكم مجرى الأحداث اللاحقة في العراق والمنطقة.