الطابع «الإرادوي» لسياسة إيمانويل ماكرون الخارجية، والذي تجلّى في جهود التقارب مع روسيا، والانخراط الجدّي في «الملف الإيراني»، واعتماد خطاب تصعيدي في بعض الأحيان، كتصريحاته المثيرة للجدل حول «الناتو»، أثار العديد من الأسئلة حول تحوّلات الدبلوماسية الفرنسية، الباحثة باستمرار عن دور ريادي على الصعيد الدولي، من دون امتلاك المقوّمات اللازمة له. لا شك في أن استدارة الرئيس الفرنسي نحو روسيا تمثل عودة إلى مقاربة واقعية للعلاقات الدولية تستند إلى مبدأ سيادة الدول، وإلى اعتماد دبلوماسية الحوار، بعد التخلّي عنها لمدة طويلة لمصلحة سياسة «الممرّات الإنسانية» الملازمة لعمليات التدخل لتغيير الأنظمة. لقد أفضت هذه السياسة التي اتُبعت في ليبيا عام 2011 إلى تبعات دبلوماسية شديدة السلبية، وتسبّبت في أزمة ثقة مع الصين وروسيا اللتين أيّدتا قرار مجلس الأمن الذي سمح بتدخل «الناتو» في هذا البلد بحجة حماية المدنيين، ولكنه استُغلّ عملياً لتسريع إسقاط النظام. التبعات الكارثية للأزمة الليبية، والتي تلتها محاولة جديدة لزعزعة استقرار سوريا، شجّعت هذين اللاعبين الدوليين على انتهاج دبلوماسية حازمة، واستخدام حق «الفيتو» لإفشال أيّ قرارات دولية تستهدف نظاماً حليفاً. على رغم الجهود المضنية التي بذلتها الدبلوماسية الفرنسية للتأثير في مجرى الأزمة السورية، عبر دعم فصائل المعارضة، بما فيها الأقلّ اعتدالاً، وهو توجّه تبنّاه وزير الخارجية الأسبق لوران فابيوس، فإن فرنسا تجد نفسها اليوم خارج اللعبة الدائرة في سوريا. وهي، بعد أن حَرمت نفسها من قنوات التواصل مع القوى الفاعلة في الأزمة، تحاول راهناً تجاوز هذا الأمر، من خلال الالتزام مجدداً بمبدأ سيادة الدول، والقطيعة مع «التدخلات الإنسانية» الهادفة إلى فرض تغييرات سياسية منسجمة مع مصالح القوى الخارجية.
دبلوماسية ماكرون لا تكفي للتغطية على فشله في أن يجعل من فرنسا قاطرة لأوروبا

لكن دبلوماسية ماكرون الواقعية لا تكفي للتغطية على فشل طموحه إلى أن يجعل من فرنسا قاطرة لأوروبا. ليست لباريس وحدها القدرة على التأثير في ملفات دولية، ويبدو أنها تفتقد القدرة أيضاً على فرض زعامتها على أوروبا العاجزة أصلاً نتيجة لتزايد الانقسامات داخلها. وكانت عدة دول أوروبية، بينها ألمانيا، قد استنكرت ما قاله ماكرون، في مقابلة مع «الإيكونوميست» في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، عند تساؤله عن معنى استمرار حلف «الناتو» في ظلّ تفاقم تناقضاته الداخلية، والتحدّيات الاستراتيجية الجديدة المفروضة عليه، ليَخلص إلى أن «الحلف في حالة موت دماغي». أظهر هذا الخلاف مرة أخرى الضعف الشديد الذي تعاني منه أوروبا التي ما زالت أسيرة لنوستالجيا الحرب الباردة، ولعلاقة تبعية طوعية مع الولايات المتحدة ناجمة عن طغيان التوجّهات الأطلسية بين نخبها، وما يترتب على ذلك من تخلٍّ عن مشروع التحول إلى لاعب استراتيجي مستقلّ. يؤكد هذا الخلاف أيضاً عدم تمتّع فرنسا بالشرعية للتحدث باسم شركائها الأوروبيين، خاصة ألمانيا التي تَراجع معها الحوار بشكل كبير في السنوات الماضية. وقد اعتبر عالم الاجتماع، برتران بادي، أن الخلافات الألمانية - الفرنسية تعكس خللاً عميقاً بين المنطق الضمني الذي يحكم سياسة كلّ من هذين اللاعبين. وبحسب بادي، فإن برلين تريد أن تفرض نفسها كقوة عظمى اقتصادية أوروبية، بينما تعمل باريس على انتزاع الاعتراف بها كقوة عظمى عسكرية، وهو تقسيمُ عمل يقود في الواقع إلى اختلال توازنات الاتحاد الأوروبي بدلاً من أن يكون عنصر استقرار لها.
وقد أضيف إلى هذا الإخفاق على المستوى الأوروبي إخفاقٌ آخر، وهو عدم نجاح الدبلوماسية الفرنسية في إقناع دونالد ترامب بتعديل عدد من سياساته، على الرغم من زعمها استطاعتها ذلك. فالانسحاب الأميركي من اتفاق باريس حول المناخ، وأيضاً من الاتفاق النووي مع إيران الموقّع في تموز/ يوليو 2015، وعجز فرنسا عن الضغط على الولايات المتحدة لثنيها عن معاقبة الشركات الأوروبية، يثبتان تحكّم الحسابات الانتخابية في سياسة ترامب. على رغم «الإرادوية» الشكلية التي يجري تظهيرها في اللقاءات الدولية الكبرى، فإن الدبلوماسية الفرنسية مصابة بنوع من «فقدان البصيرة تجاه العالم وتحولاته» وفقاً لتعبير بادي، الذي يرى أن تصوراتها الحالية حول الصيغة الأمثل للنظام الدولي تشي بعجزها حتى الآن عن بلورة سياسة معولمة بالمعنى الحقيقي للكلمة.