حسم محور المقاومة خياره: إخراج القوات الأميركية من المنطقة. الطلقة الأولى كانت بالرسالة الصاروخية التي أصابت عدّة أهداف في دلالاتها. وبعيداً من كونها الصفعة العسكرية الأولى لواشنطن منذ عقود خَلَت، يبدو أن الرسالة الباليستية سُمعت أصداؤها جيداً في دول الخليج العربية، ومفادها بأن الصواريخ الإيرانية قادرة على ضرب نقاط في المدى المتوسط، بما يجعل الشاطئ الغربي للخليج يستحيل ناراً بوجود الكمّ الكبير من النفط فيه. ومن هنا، تنتقل الرسالة الباليستية إلى العدو الإسرائيلي، باستخدام صاروخ «فاتح 313».
(هيثم الموسوي)

فإيران لديها لائحة طويلة من الصواريخ كان بالإمكان استخدامها في الهجوم، إلا أن اسم «فاتح» له وقع خاص على القيادة الأمنية والعسكرية لكيان العدو. إذ إن هذا الاسم يؤرّق البنى التحتية والقواعد العسكرية الصهيونية، ومنذ عام 2010 لا يكلّ المحللون الصهاينة عن تخصيص ذكره من بين الصواريخ «النقطوية» في تقاريرهم كافة، التي تشير إلى احتمالية امتلاك المقاومة في لبنان له، علماً بأنه موجود بيد القوات المسلحة السورية بصناعة سورية أيضاً، وهذا ما يشغل المحافل العسكرية الإسرائيلية لناحية القدرة التدميرية لهذه الصواريخ في أيّ استهداف باعتماد تكتيك «الإمطار الصاروخي». إذاً، الوجود الأميركي تحت مرمى النيران الإيرانية، فضلاً عن محور مسلّح صاروخياً وجاهز لشنّ ضربات دقيقة في حال استلزم الأمر خوض أيّ حرب شاملة.
موضوع إخراج القوات الأميركية من المنطقة يستوجب رسم خريطة طريق، وتقسيم هذه المنطقة إلى بقعتين سيكون العمل فيهما مختلفاً تماماً من نواحي التكتيك والتحرّك والأهداف. وهنا، لا بدّ من تقسيم الشرق الأوسط، أو منطقة غرب آسيا، إلى شطرين عبر خطّ عرضي يقسّمها افتراضياً إلى منطقة شمال الشرق الأوسط ومنطقة جنوب الشرق الأوسط. المنطقة الشمالية تشمل: إيران، العراق، سوريا، لبنان وفلسطين المحتلة، فيما المنطقة الجنوبية ستكون في المحيط الجغرافي لشبه الجزيرة العربية. إخراج القوات الأميركية يعني إخراج النفوذ العسكري الأميركي المؤثر في صناعة قرار المنطقة، بما يؤدي إلى متغيّرات جيوسياسية على صعيد الإقليم. وبالتالي، من السذاجة الاعتقاد بأن العملية تشبه عملية «كنس» للقوات الأميركية في غضون فترة زمنية محدّدة، بل الهدف إخراجها من مراكز صناعة القرار، وإجلاء معظم وجودها العسكري الذي يشكل تهديداً مباشراً لقوى محور المقاومة. وبالتالي، سيكون مسرح العمليات على الشقين الشمالي والجنوبي مختلفاً في التعاطي وأرضية العمل.
إخراج القوات الأميركية يستوجب خريطة طريق وتقسيم المنطقة إلى بقعتين


شمالاً، سيكون بمقدور محور المقاومة العمل بالسياسة أو بالنار؛ فالوجود الأميركي بات غير مشروع في العراق، وهو بالأساس قوة احتلال في سوريا، وهذا يعطي الحق لقوى المقاومة بالتعامل معه على أساس أنه قوة احتلال، وضربه بما يتناسب ودفعه إلى الخروج بتسوية أو بدونها، فيما الكيان الصهيوني سيُعتبر قاعدة أميركية غير بعيدة عن دائرة الاستهداف لإيلام الأميركي. وبالتالي، ستكون الساحة الشمالية عرضة لجولات من التضارب من دون قفازات بين محور المقاومة والقوة العسكرية الأميركية. أما في القسم الجنوبي من الخطّ الافتراضي للشرق الأوسط، وخاصة منطقة شبه الجزيرة العربية بممالكها وإماراتها، فهذه الدول لا تريد خروج القوات الأميركية، ولا مصلحة لها في خروجها أبداً، بل ستتمسّك بوجودها حفاظاً على عروشها وحكمها. وهنا، يستلزم هذا الأمر العمل بإتقان وحذر بغية الإبقاء على باب الحوار مع الدول المذكورة مفتوحاً، وفصلها عن الالتزام مع الأميركي والتضييق عليه ليختار بنفسه الخروج من الخليج بفعل مضايقات مباشرة أو من تحت الطاولة من دون المساس بأمن الدول المشاطئة للخليج.
التعقيد في المنطقة الجنوبية للشرق الأوسط يفتح باباً أمام مواجهة قد تكون أطول مما سيكون عليه الحال في المنطقة الشمالية، إلا أن التجربة الإيرانية ربما تمثل نموذجاً للدول الحليفة لواشنطن. فهذه الممالك والإمارات كانت شاهد عيان على انهيار جبروت الشاه الإيراني المخلوع محمد رضا بهلوي، وكيف انقلبت إيران من أكبر قاعدة أميركية في الشرق الأوسط إلى أكبر بيئة معادية لواشنطن. وربما سيكون هذا السيناريو حاضراً بالفعل، ما يعني أن المتغيرات السياسية أيضاً قد تؤثر في إخراج الأميركي من المنطقة، الأمر الذي يعتمد على قوة هذه الشعوب وقدرتها على التغيير والتحرّك. قرار إخراج القوات الأميركية من المنطقة، والذي اتخذه محور الممانعة والمقاومة، سيستكمل رسم الاستراتيجيات الجديدة لمواجهة ذلك المستجد. وهو حتماً وضع خريطة طريق وتقديراً زمنياً للوصول إلى هدفه عبر اختيار الأساليب وآليات العمل المناسبة للتعامل مع جولات الصراع المقبلة، والتي سيكون بعضها ذا مفعول على المدى القريب، فيما البعض الآخر سيكون التعامل معه على المستوى الأبعد لتحقيق الأهداف والغايات الموضوعة لإخراج أميركا من المنطقة.