بغداد | قوبل تأكيد العراق - على لسان رئيس حكومته المستقيل عادل عبد المهدي - تسلّمه رسالةً من القيادة العسكرية الأميركية تفيد بـ«إعادة تموضع قواتها تمهيداً للانسحاب من العراق»، بتأكيد الإدارة الأميركية بقاءها في هذا البلد، وإعلانها أن «الرسالة أُرسلت عن طريق الخطأ». عبد المهدي، وفي كلمة ألقاها أمام وزرائه أمس، أشار إلى أن «الرسالة موقّعة من قائد العمليات العسكرية الأميركية في البلاد، وهي توضح اتخاذه إجراءات معينة لضمان الخروج من العراق، تبدأ بعمليات إعادة تمركز خلال الأيام والأسابيع المقبلة». رئيس الوزراء المستقيل، والذي يُرجّح أن يستمرّ في منصبه إلى أمد غير معلوم، لفت إلى أن «الرسالة رسمية، وجاءت في سياقها الطبيعي، وليست ورقة وَقَعت من الطابعة أو أتت بالصدفة». وفيما كشف أن فريقه قال للجانب الأميركي إن «الترجمة العربية تختلف عن الترجمة الإنكليزية، فعادوا وأرسلوا نسخة عربية أخرى تتطابق ترجمتها مع الإنكليزية»، رفضت القيادة العسكرية الأميركية أيّ حديث مماثل، متمسّكةً بالقول إنه «ما من قرارٍ على الإطلاق بمغادرة العراق... نقطة على السطر».وعلى رغم تضارب المواقف الأميركية في العلن، إلا أن الحركة الميدانية تشي بأن ثمة «إعادة تموضع» بالفعل. وفي حين ذكرت مصادر ميدانية أن قاعدة بلد الجوية (64 كيلومتر شمال بغداد) و36 نقطة عسكرية (في المناطق الوسطى والمحاذية للعاصمة) تم إخلاؤها بالكامل، أوضحت مصادر حكومية، في حديث إلى «الأخبار»، أن «الانسحابات لم تشمل (إلى الآن) القوات الأميركية، إنما الشركات الأميركية المتعاقدة مع الجيشين العراقي والأميركي، والعاملة في برنامج التدريب للطيارين والدعم اللوجستي (ضمن برنامج FMS)»، مضيفةً أن «شركتَي لوكهيد مارتن وسالي بورت الأميركيتين وشركات أخرى قد انسحبت فعلاً من قاعدة بلد». من جهتها، أكدت مصادر أمنية أن «القيادة الأميركية أوعزت إلى قواتها بعدم سلوك أيّ طريق برّي، والتنقّل حصراً بالطائرات»، في ما يعكس خوف الولايات المتحدة من أيّ هجوم قد يطال قواتها المنتشرة على طول الخريطة العراقية. ووفقاً لمعلومات «الأخبار»، فإن «جهاز مكافحة إلارهاب»، المدرَّب على يد القوات الأميركية، طلب من الأخيرة مغادرة أيّ مقارّ مشتركة الإشغال من قِبَل الجانبين، بعدما صدرت خلال الأيام الماضية دعوات للقوات العراقية بالابتعاد عن أيّ نقطة عسكرية أميركية.
في موازاة ذلك، تؤكّد مصادر مطّلعة من داخل أكثر من فصيل عراقي مقاوم أن «جبهة المقاومة العراقية على أتمّ الجاهزية والاستعداد للردّ على الجريمة الأميركية، والتي أودت بحياة الشهيدين قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، في انتظار ساعة الصفر التي ستكون لحظة الردّ الإيراني» الذي انطلق ليل الثلاثاء - الأربعاء، مضيفةً في حديثها إلى «الأخبار» أن «طهران ستتولّى الردّ رسمياً على الجريمة، وليس عن طريق حلفائها»، وهو ما بدأ فعلاً. وتُبيّن المصادر أن الردّ العراقي سيتخذ بُعدين:
1- الاقتصاص لشخصية جهادية عراقية، إلى جانب كلّ الشهداء الذي طالهم العدوان الأميركي أخيراً، حتى لا يتكرّر «حمّام الدم» هذا في ظلّ تمادي الأميركي وخرقه المستمرّ للسيادة العراقية، خصوصاً وأن إشارات متعددة أفادت بنية واشنطن مواصلة عمليات التصفية لشخصيات «جهادية»، بهدف «تطويع الحشد»، وإبعاده عن المعادلة الإقليمية بوجه المحور الأميركي - الصهيوني.
على رغم تضارب المواقف الأميركية إلا أن الحركة الميدانية تشي بأن ثمة «إعادة تموضع» بالفعل


2- الوفاء لقاسم سليماني، صاحب الدور الأبرز في بناء فصائل المقاومة العراقية، وتسليحها وتدريبها وتأهيلها. مقتضى الوفاء، وفق المصادر، عبّر عنه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، بدعوته إلى إخراج الاحتلال الأميركي من منطقة الشرق الأوسط عموماً، والعراق خصوصاً، الذي يضمّ وفق بعض التقديرات 25 ألف عسكري.
لكن مصادر حكومية ترفض أيّ تقدير مماثل، حاصرةً العديد الأميركي في العراق بما دون 10 آلاف عسكري. وفي حديثها إلى «الأخبار»، تؤكد المصادر أن «بغداد تجهد لحلّ مسألة بقاء القوات الأميركية من خلال الجهود السياسية، تجنّباً لإراقة المزيد من الدماء»، مضيفة أن عبد المهدي يرى أن «الحلّ الأنجع للأزمة الراهنة هو خروج القوات الأميركية عن طريق التفاهم مع واشنطن»، وهذا ما عبّر عنه في كلمته أمس. لكن المصادر تنبّه - في الوقت عينه - إلى أن العراق «لا يأمن الجانب الأميركي»، وعليه، لا ضمانة لاستمرار التفاوض السياسي، بل إن ثمة ما يؤشّر إلى أن الانسحاب الأميركي لن يكون إلا بـ«النار»، خصوصاً في ظلّ الموقف الجامع لفصائل المقاومة، وحديثها عن «تنسيق جبهتها» لمواجهة الاحتلال. جبهةٌ لا يبدو إلى الآن أنها ستكون جامعة، بعد رفض الكتل «السُنّية» و«الكردية» التصويت على قرار برلماني يُلزم الحكومة الاتحادية بإخراج القوات الأميركية، ورسالة رئيس الجمهورية برهم صالح إلى الأمم المتحدة، والتي حملت موقفاً «ضعيفاً جدّاً» يدعو إلى إدانة أعمال واشنطن، ويطالب الجميع - بمن فيهم بغداد - بـ«ضبط النفس»!
وفي هذا الإطار، تشير المصادر إلى أن إصرار واشنطن على البقاء في العراق من جهة، وإعادة تموضع قواتها من جهة ثانية، يعني انسحاب القوات الأميركية من المناطق الجنوبية، ذات الغالبية «الشيعية»، وانتقالها إلى «مناطق آمنة» في الشمال والغرب، حيث الغالبية «الكردية» و«السنية»، في خطوة مدروسة تعزّز الخطّة الأميركية الساعية إلى «رسم حدود الأقاليم» بمعزل عن تثبيتها رسمياً، وفي تكرار أيضاً لما يجري في «إقليم كردستان» الذي يضمّ 6 قواعد أميركية لا تعرف الحكومة ما يدور فيها. هذا المخطّط، في حال سلك سبله إلى التنفيذ، سيمثل خرقاً صريحاً للدستور، وتلويحاً مبطناً بـ«حرب أهلية، وعودة داعش» كما تقول المصادر، في ظلّ تحضيرات جدّية لإحياء مشروع «الصحوات» (سبق أن تحدّثت «الأخبار» عنه في أيلول/ سبتمبر الماضي)، بهدف حماية تلك القواعد، على اعتبار أن القوات الأميركية تحمي المناطق المذكورة من «التمدّد الشيعي أو الاستهداف الشيعي».
هكذا إذاً، سيتمّ على ما يبدو تسعير الخطاب الطائفي في الأيام المقبلة، وسط جهود تبذلها الجيوش الإلكترونية التابعة للسفارة الأميركية في بغداد في بثّ دعاية تدعو إلى ضرورة بقاء الاحتلال، وتتّهم من يشارك في قتاله بـ«التبعية لإيران». دعاية تشي بوضوح بأن الولايات المتحدة ستلجأ إلى سلاح «التفتين» داخل البيت العراقي، من أجل نزع الصبغة الوطنية عن الخطاب المناهض للاحتلال، وتحويل قضية بحجم تحرير العراق وتعزيز استقلاله إلى مادّة خلافية بين «المكوّنات»، التي اخترعها الأميركيون ولا يزالون يجهدون لإبقائها متفرّقة مشتّتة.