لا جدال في أن الفائدة الاستراتيجية التي تحقّقت لإسرائيل، جرّاء الاستهداف الأميركي لقائد «فيلق القدس» اللواء قاسم سليماني، كبيرة جدّاً. إخراج الرجل من المعادلة يؤمّن لإسرائيل، وفق ما ورد في التقارير العبرية أمس، «الانفكاك عن أكبر أعدائها على مرّ كلّ الأزمنة». فائدة استراتيجية أخرى جنتها تل أبيب من اغتيال نائب رئيس هيئة «الحشد الشعبي» في العراق، أبو مهدي المهندس، أحد القادة المتقدّمين الذين يثيرون خشية تل أبيب من أن يُخرجوا القوة العراقية الرافضة للاحتلال من حيّز الإمكان إلى الفعل.لكن تلك الفوائد، على أهميتها، لا ترقى وحدها إلى التسبّب بتغيير فعلي في البيئة الاستراتيجية لإسرائيل، والتي باتت مشبعة بالتهديدات ومقبلة على مزيد منها. وهنا محلّ القلق الإسرائيلي الذي ينطوي عليه الترحيب بعملية الاغتيال. قلقٌ لا يرتبط فقط بإمكانية أن يكون الكيان العبري بين أهداف الردّ الإيراني، بل يتصل بنوايا الحليف الأميركي، وما إن كان مستعدّاً فعلاً للذهاب بعيداً في المواجهة مع إيران حتى كسرها. وفي هذا الإطار، تخشى تل أبيب من أن تكون خطة الإدارة الأميركية مقتصرة على هدف محدود: ردع إيران وحلفائها.
عملية اغتيال سليماني، بوصفه شخصية إيرانية وازنة واستراتيجية، ستجرّ حكماً، بحسب صحيفة «هآرتس»، ردوداً إيرانية بمستويات عالية، وهو ما لا يتساوق مع ذلك الهدف «الردعي». لذلك، ترى الصحيفة أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب قد يتسبّب فعلاً بحرب مع إيران، حتى من دون خطة معدّة مسبقاً. وفي الوقت نفسه، يمكنه العودة إلى الانكفاء. إلا أن إخراج الولايات المتحدة من «ورطة» التصعيد الأخير قد يلحق الضرر بمصالحها ومصالح حلفائها. قد تكون إسرائيل نجحت في دفع الولايات المتحدة، في نهاية المطاف، إلى مواجهة إيران بشكل مباشر، أو ساهمت في حملها - إلى جانب عوامل أخرى - على اتخاذ موقف عدائي متطرف تَجاوَز قواعد الاشتباك في العراق والإقليم. إلا أن الحسابات باتت اليوم متعلّقة بما سيلي الردّ الإيراني الذي تُقدّر إسرائيل، كما تسرّب عنها أمس، أنه آتٍ لا محالة.
في ظاهر موقف تل أبيب تهليلٌ عارم ورضا كامل عن التسعير الأميركي للمواجهة مع طهران، خصوصاً إذا ما كان اغتيال سليماني مقدّمة لخطوات لاحقة ضمن استراتيجية أميركية محدّدة مسبقاً، تستهدف إخراج إيران من العراق وسوريا والإقليم. لكن هل هذا هو الهدف الأميركي؟ لا إجابات إسرائيلية قاطعة، وإنما تقديراتٌ، لعلّ أبرز من عبّر عنها، أمس، الرئيس السابق لشعبة الاستخبارات العسكرية في الجيش الإسرائيلي، الرئيس الحالي لـ«مركز أبحاث الأمن القومي»، اللواء عاموس يدلين. إذ رأى أن «إيران وأميركا غير معنيتين بأن تتسبّبا بحرب بينهما، على رغم أنهما تسيران حالياً على حافة المواجهة، علماً أنه في الديناميكية الاستراتيجية يُمنع الافتراض أن الخصم سيستمرّ في التصرّف كما في الماضي. استمرار الأمور على حالها مرهون بالردّ الإيراني، في حين أن الحفاظ على الردع الذي أُنجز، ومنع ردّ إيراني ضمن ضبط التصعيد، هو تحدٍّ استراتيجي للولايات المتحدة».
تخشى تل أبيب من أن تكون خطة الإدارة الأميركية مقتصرة على هدف محدود


في التسريبات العبرية أمس، ورد أيضاً أن إسرائيل كانت على علم مسبق باستهداف سليماني، بل إن عملية اغتياله شكّلت مادّة للأخذ والردّ في الزيارات والاتصالات المتبادلة بين الجانبين، ومن بينها ثلاثة اتصالات هاتفية أخيراً بين رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو ووزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو (القناة 12)، ولذا «لم تفاجأ إسرائيل بالتصفية الدراماتيكية» لسليماني. لكن، مع ذلك، رفض نتنياهو الإجابة عن سؤال عمّا إذا كان على علم مسبق بالضربة، في ما بدا محاولة متجدّدة لضمان إبقاء إسرائيل بعيدة عن المواجهة الأميركية - الإيرانية. وكان نتنياهو قرّر قطع زيارته إلى اليونان، والعودة إلى فلسطين المحتلة، توازياً مع إصداره تعليمات إلى وزرائه بالامتناع عن التعليق خوفاً من التبعات. وفي حديث مع الإعلاميين حرص مكتبه على تعميمه، قال نتنياهو إن «للولايات المتحدة الحق في الدفاع عن مواطنيها ومصالحها»، مضيفاً أن «سليماني كان المسؤول عن مقتل العديد من المواطنين الأميركيين ومدنيين عزّل آخرين»، وأنه «خطّط للمزيد من الاعتداءات الإرهابية». ورأى أن «ترامب تصرّف بحزم وبقوة وبسرعة، وإسرائيل تقف إلى جانب الولايات المتحدة في النضال من أجل توفير الأمن والسلام والدفاع عن النفس».
من جهته، سارع وزير الأمن، نفتالي بينت، إلى عقد جلسة تقييم وضع في تل أبيب، بمشاركة رئيس أركان الجيش أفيف كوخافي، وكبار المسؤولين الأمنيين الآخرين، تَقرّر في أعقابها، بحسب مصادر عسكرية، رفع مستوى التأهّب العسكري على كلّ الجبهات، ولا سيما الجبهة الشمالية (لبنان وسوريا).