قبل 61 عاماً، تدفّق الكوبيون إلى الشوارع معلنين النصر، بعد أن هزموا ديكتاتورية فولغنسيو باتيستا المدعوم أميركياً، والذي كان قد جعل من كوبا ملعباً للأميركيين، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.اليوم، تقف كوبا وهي تتلقى التحايا لثورتها الاشتراكية ولصمود شعبها أمام العدوان والحصار الأميركي المستمر منذ أكثر من ستة عقود. وهو الأمر الذي اختصره الرئيس ميغيل دياز كانيل اليوم حين قال في رسالة عبر «تويتر» في ذكرى انتصار الثورة: «نحن الكوبيين فُزنا بالمستحيل، وهذا هو الوقت المناسب بالنسبة إلينا لنستعد لسنة أخرى إيجابية بشكل استثنائي».
كانيل يعي الصعوبة الاقتصادية التي تعاني منها بلاده، منذ صعود الرئيس دونالد ترامب إلى الحكم قبل ثلاث سنوات، والذي هدم ما قام به سلفه باراك أوباما من إعادة للعلاقات الدبلوماسية مع كوبا في أواخر العام 2015، حيث فُتحت السفارات بين البلدين بعد قطيعةٍ دامت أكثر من نصف قرن، وعمد أوباما نفسه إلى القيام بزيارة رسمية للجزيرة، وعادت حالة التطبيع لتسود العلاقات بين الدولتين.
على الرغم من ذلك، وعد كانيل بتحقيق المستحيل مرة أخرى في وجه الحصار الذي بلغ أوجه في العام الماضي، واتخاذ خطوات وسياسات مساعدة للصمود، وقد برز هذا الأمر في نهاية عام 2019، مع إعادة منصب رئيس الوزراء، وتعيين وزير السياحة مانويل ماريرو خلفاً لفيديل كاسترو، إضافة إلى مناقشة الموازنة العامة لعام 2020، وتقديم وزير الاقتصاد والتخطيط الكوبي أليخاندرو جيل فرنانديز تقريراً عن نتائج الـ2019 الاقتصادية، وتوقعه نمو الناتج المحلي الإجمالي هذه السنة 1%، كخطوة أولى من خطة التنمية حتى الـ2030.

«تصعيد العدوان وتشديد الحصار»
مناخ العداء في العلاقات الثنائية الكوبية الأميركية اتّسم بصورة حادّة في ارتفاع نبرة الخطاب العدواني عند حكومة واشنطن ضد كوبا. وكجزء من هذا التصعيد، سعت الولايات المتحدة لإدخال ثمانية تعديلات على مشروع القرار ضد الحصار. وقد شكّل هذا الحصار الاقتصادي والتجاري والمالي المفروض على كوبا كابحاً لكل القدرات الكامنة في اقتصاد الجزيرة، ولتطبيق «الخطة الوطنية للتنمية الاجتماعية» للبلاد، وكذلك لتحقيق «أجندة 2030 وأهدافها للتنمية المستدامة».
واصلت الولايات المتحدة التشدّد في تطبيق منظومة العقوبات المفروضة على كوبا حتى خارج حدود هذه الأخيرة، ملحقة خسائر متواصلة بالشركات والمصارف الكوبية، التي تواجه اليوم عقبات هائلة في نشاطها التجاري والمالي في كثير من بلدان العالم. وقد وسّعت وزارة الخارجية الأميركية ثلاث مرات «قائمة الهيئات الكوبية المقيَّدة» التي تخضع لعقوبات إضافية فوق تلك التي تفرضها نظم الحصار. هذا الإجراء تسبّب في أضرار جسيمة لاقتصاد هافانا، وذلك لأثره الكبير على عالم الأعمال الدولي.
أضيفت إلى ذلك قرارات «مكتب مراقبة الأصول الأجنبية» التابع لوزارة الخزانة و«مكتب الصناعة والأمن» التابع لوزارة التجارة الأميركية بإلغاء التصريحات العامة، اعتباراً من حزيران/ يونيو الماضي، التي تسمح بالقيام برحلات تربوية جماعية، وحجب الإجازات عن الطائرات غير التجارية وبواخر السفر والترفيه للإقامة المؤقتة، بما في ذلك البواخر السياحية، ما يؤثر بشكل مباشر على عدد زائري كوبا. كما حظرت إدارة ترامب رحلات الطيران الأميركية إلى ثماني مدن كوبية، تاركة هافانا فقط كوجهة.
كل هذه الإجراءات اتخذتها واشنطن بهدف مقصود ومُعلن هو إنزال أضرار اقتصادية وحرمان كوبا من موارد ماليَّة. أحد الأدلة غير المسبوقة على تشديد سياسة حكومة الولايات المتحدة المعادية لكوبا تمثّل في قرار السماح بإمكانية اتخاذ إجراءات قضائية في محاكم الولايات المتحدة استجابة لدعاوى يرفعها مواطنون أو مؤسسات أميركية، استناداً إلى الباب الثالث من قانون «قانون الحرية والتضامن الديمقراطيّين الكوبيين» (هيلمز بيرتون)، بحق شركات أو أفراد كوبيين أو من بلدان أخرى على صلة تجارية بممتلكات مؤمَّمة في كوبا في عقد الستينيات من القرن الماضي. وقد أنهى هذا القرار ممارسة ثابرت عليها منذ عام 1996 الحكومات الأميركية السابقة، وحتى الرئيس ترامب نفسه خلال العامين الأولين من ولايته، حيث واظبت على إلغاء هذه الإمكانية كل ستة أشهر. ويشكّل هذا القانون أداة قضائية للضغط السياسيّ تنص على إجراءات ضغط اقتصادي تمسّ سيادة كوبا وبلدان أخرى، وذلك بهدف زيادة الفاقة عند المواطنين. كما يسعى لتأبيد مناخ العداء بين كوبا والولايات المتحدة.
إضافة إلى ذلك، تواصلت آليات ملاحقة العمليات المالية الكوبية في أراضي بلدان أخرى، الأمر الذي ترك أثراً اقتصادياً كبيراً على هافانا. فقد فرض «مكتب مراقبة الأصول الأجنبية» وغيره من الهيئات الأميركية غرامات مالية على العديد من شركات بلدان أخرى بسبب انتهاكها لهياكل عقوبات مختلفة، بما فيها «نظم مراقبة الأصول الكوبية». بين شهر حزيران/ يونيو 2018 وشهر نيسان/ أبريل 2019، فرضت الحكومة الأميركية تسع عقوبات على شركات أو مصارف من بلدان أخرى، ومن الولايات المتحدة نفسها. بلغت القيمة الإجمالية لهذه الغرامات 3 مليارات و751 مليوناً و449 ألف دولار أميركي.
لم تقف الخطوات العدوانية الأميركية عند هذا الحد، بل تمادت حتى وصلت إلى منع شحن النفط من فنزويلا إلى كوبا من خلال معاقبة شركات الشحن والسفن التي تنقل الوقود. هذا الأمر الذي أغرق الجزيرة في أزمة محروقات خنقتها وتسببت في انحسار التنقلات الداخلية. واجهت الحكومة الكوبية هذه الأزمة بسياسات تدبيرية ساعدت على تخطّيها. رغم ذلك، لم تنقطع الكهرباء في كوبا ولا شُلّ قطاع النقل، ولا حتى رفعت أسعار المحروقات، كما لم تتأثر الخدمات الاجتماعية من طبابة وتعليم وغيرها بهذه الأزمة خصوصاً، وبالحصار الاقتصادي الأميركي الممتد منذ ستة عقود عموماً.

«أضرار سياسة ترامب (2018 ـــ 2019)»
بالأسعار الجارية، تبلغ قيمة الأضرار المتراكمة على مدار نحو ستة عقود من تطبيق سياسة الحصار الأميركي 138 ملياراً و843 مليون دولار*. لكن في الفترة الأخيرة، ومع تشديد ترامب للعقوبات، منذ شهر نيسان/أبريل 2018 حتى شهر آذار/مارس 2019، فقد بلغت قيمة الخسائر حوالى 4 مليارات و343 مليون دولار، في مختلف قطاعات الجزيرة منها (2018 ــ 2019) ومنها:
قطاعا الإنتاج والخدمات: تقدَّر بـ79 مليون دولار، وهو الأمر الذي عكس ارتفاعاً بنسبة 28 % بالمقارنة مع الفترة السابقة.
قطاع السياحة: مع تواصل تطبيق الإجراءات التي أعلنها ترامب ضد كوبا منذ عام 2017، تلحق هذه الإجراءات أذىً بالغاً بالسياحة في هافانا، وهي أحد القطاعات الاستراتيجية في التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وقد تسبّب الحصار في خسائر للسياحة الكوبية تصل قيمتها إلى مليار و383 مليون دولار.
قطاع الاتصالات والمعلوماتية: قدّر حجم الأضرار الاقتصادية التي لحقت بنظام الاتصالات بأكثر من 55 مليون دولار. «شركة الاتصالات السلكية واللاسلكية الكوبية ش.م.» (ETECSA) هي الأكثر تضرراً، إذ يصل نصيبها إلى 98% من إجمالي الخسائر.
قطاع النقل: تجاوز الحجم الإجمالي لأضرار هذا القطاع حدود 170 مليون دولار، ما يمثل زيادة قدرها أكثر من 69 مليوناً بالمقارنة مع الفترة السابقة.
قطاع الصناعة: تجاوزت قيمة الأضرار التي لحقت بالصناعة الكوبية 49 مليون دولار.
قطاع الطاقة والموارد الطبيعية: إن قيمة الأضرار التي لحقت بشركات القطاع تجاوزت 78 مليوناً و336 ألفاً دولار، ما يمثل زيادة قدرها أكثر من 18 مليون دولار بالمقارنة مع الفترة الماضية.
التجارة الخارجية: بلغ حجم الأضرار الإجمالية لحصار الولايات المتحدة في مجال التجارة الخارجية الكوبية نحو مليارين و896 ألف دولار.
المال والتمويل: قُدِّرت قيمة الأضرار النقدية ــ الماليّة بـ725 مليون دولار، ما يمثّل ارتفاعاً نسبته 35% بالمقارنة مع الفترة السابقة. فبين شهري نيسان/أبريل 2018 وآذار/مارس 2019، سُجّلت أضرار بالنظام المصرفي الكوبي على أيدي 140 مصرفاً أجنبياً. وخلال هذه الفترة، زاد 12 عدد المؤسسات المالية الأجنبية التي انضمّت إلى سياسة رفض تقديم الخدمات بحجة الحصار الأميركي. أنزل ذلك صعوبات هائلة تحول دون العمل الطبيعي والملائم لهذا القطاع، وتزيد التكاليف المرتبطة بالتشغيل المصرفي والتجاري، وقد اتّسمت السنتان الماضيتان بتوجّه مؤسسات مالية ومصرفية نحو رفض القيام بعمليات مع مصارف كوبية، وكذلك بإغلاق حسابات ورموز لتبادل المعلومات المصرفية.

*(هذه الأرقام تعود إلى تقرير صدر عن الدولة الكوبية في تموز/يوليو الماضي)