في العقد الثاني مِن «الحرب على الإرهاب»، تحرّكت الجهود الأميركية لـ«مكافحة التمرّد» أكثر إلى الظلّ: عددٌ أقلّ من الجنود على الأرض، في مقابل مزيد من الطائرات المسيّرة والقوات الخاصة. يمكن هذا أن يسهّل إخفاء إخفاقات العمليات التشغيلية للتحالفات التي تقودها أميركا، توزاياً مع سعيها إلى إخفاء تكلفة تراجعها الاستراتيجي الأعمق، لكن السؤال الملازم لهذا السياق: ماذا بقي لتجنيه واشنطن من حربها على الإرهاب؟مرَّ تسريبٌ عن عزم أميركا على بدء انسحاب تدريجي من غرب أفريقيا من دون ضجّة تُذكر. الانسحاب من مهمّة بلبوس «مكافحة الإرهاب» لم يصدر من دوائر «البنتاغون» الرسمية بعد، إلا أن وزارة الدفاع لم تنفِ السير في خطة إعادة التموضع الأميركية، تأسيساً لمرحلة تُركّز فيها الولايات المتحدة على أولويّتَين اثنتين، هما: الصين وروسيا. تعي واشنطن أن السياسة الدولية تمرّ بمرحلة تحوّل عميق، وأن استراتيجية الريادة لم تعد قابلة للتحقيق في عالم بدأ يتشكّل على أساس نهاية حقبة الأحادية القطبية. من هنا، فإن تركيزها على خصمين بحجم بكين وموسكو يتطلّب منها «اعتماد شكل مخفّف من أشكال الليبرالية الأممية»: الانسحاب من «الحرب على الإرهاب»، في اقتراح منسوب لإيما أشفورد من معهد «كاتو». يتّسق ذلك أيضاً مع إعادة الانتشار الأميركي في شمال شرق سوريا، والإعلان عن انسحاب جزئي من أفغانستان، وتقليص عديد الجنود الأميركيين في العراق إلى 2,500 جندي.
في الرابع والعشرين من الشهر الجاري، أفاد مسؤولون أميركيون، «نيويورك تايمز»، بأن أميركا عازمة على تقليص وجودها العسكري في غرب أفريقيا، كجزء من خطّتها لسحب كامل قواتها. الخطّة التي لا تزال قيد نقاش داخلي في وزارة الدفاع، وضعتها مصادر الصحيفة في إطار إعادة نشر شاملة للقوات الأميركية. لم يُخفِ وزير الدفاع الأميركي، مارك إسبر، رغبته في «إعادة النظر في الانتشار الأميركي» على مستوى العالم، والتخلّي عن مهمّات مكافحة الإرهاب، بهدف وضع أولوية المؤسسة العسكرية القصوى «على النحو المنصوص عليه في استراتيجية الدفاع الوطني: الصين، الرقم 1؛ روسيا، الرقم 2». يقول إسبر إن طموحه «كان ولا يزال يتمحور حول كيفية إنجاز سحب الموارد من قوات ومعدات»، طارحاً، كما سلفه جيمس ماتيس، خياراً من اثنين: «إعادة القوات العسكرية إلى الولايات المتحدة (للاستراحة)، وللحفاظ على استعدادها، أو نقلها إلى منطقة الهند والمحيط الهادئ».
لم يُخفِ إسبر رغبته في التخلّي عن مهمّات مكافحة الإرهاب


يدور النقاش الراهن حول إعادة التموضع الأميركي، وليس ما دأب دونالد ترامب على ترداده خلال حملته الانتخابية ولاحقاً رئاسته، أي الانسحاب مِن «الحروب التي لا تنتهي» و«العودة إلى الوطن». الاستراتيجية المتمثّلة في بناء هياكل قوية للتحالفات العسكرية، خصوصاً في أوروبا وآسيا حيث يتمركز حوالى 225 ألف جندي أميركي (الوحدة الأكبر موجودة في اليابان: 63,435، تليها ألمانيا: 46,900، وكوريا الجنوبية: 29,048)، لم يعد لها أيّ معنى في عالم ما بعد الحرب الباردة، وفق ما يرى الخبراء. لكن واشنطن لن تقدِم على أيّ خطوة من شأنها إنهاء وجودها العسكري، لا سيما في هاتين القارتين. ويضغط «البنتاغون» على الدول المضيفة لدفع حصة أكبر من التكاليف، كطلبه من كوريا، مثلاً، دفع ما يصل إلى خمسة مليارات دولار سنوياً، أي أكثر من خمسة أضعاف المبلغ الذي وافقت سيول على دفعه هذا العام. في السعودية، بدأت وزارة الدفاع مفاوضات لاسترداد مليارات الدولارات من تكاليف «تقاسم الأعباء»، حيث نشرت الولايات المتحدة عقب هجمات «أرامكو» نحو ثلاثة آلاف من قوات الدفاع الجوي للمساعدة في حماية المملكة.
وتشمل المرحلة الأولى من تقليص العمليات الخارجية (أو إعادة الانتشار على مستوى العالم global redeployment)، أفريقيا، حيث تنشر واشنطن ما بين ستة وسبعة آلاف جندي في غرب القارة، كما في شرقها، وخصوصاً في الصومال، بتكلفةٍ تناهز 45 مليون دولار سنوياً، خصوصاً على صعيد الاستخبارات والعمل اللوجستي. المناقشات الجارية بعيداً عن الكونغرس تشمل أيضاً التخلّي عن قاعدة للطائرات المسيّرة في النيجر، فضلاً عن أن انسحاباً كهذا سيشكّل «ضربة قاسية» للقوات الفرنسية التي تنشر نحو 4,500 جندي في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وخصوصاً أن الفرنسيين يعتمدون على الدعم الاستخباري واللوجستي الأميركي. يصطدم ذلك برأي آخر يعبّر عنه قائد القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا «أفريكوم» المعيَّن حديثاً، الجنرال ستيفن تاونسند، الذي يرى أن الحاجة تقتضي وجود القوات الأميركية في أفريقيا لمواجهة الصين وروسيا، اللتين توسعان نفوذيهما اقتصادياً وعسكرياً عبر القارة، وفي المياه المحيطة بها. لذلك، فإن الانقسام الحادّ في هذا الشأن، والنقد الداخلي المبكر، ركّزا خصوصاً على ما إذا كان أيّ انسحاب أميركي سيخلق فراغاً للقوى العظمى الأخرى لملئه، ما يقوّض الأهداف الاستراتيجية لواشنطن، فضلاً عن السؤال المطروح في هذا السياق: هل سيخاطر الأميركيون بـ«انهيار الاستقرار» الذي قد يزيد بشكل حادّ من تدفق اللاجئين وغيرهم من المهاجرين شمالاً إلى أوروبا؟
منذ بدء «أفريكوم»، عملياتها في تشرين الأول/ أكتوبر 2008، ارتفع عديد القوات المسلحة الأميركية في هذه القارة بنسبة 170% (من 2,600 إلى 7,000) جندي، وارتفع كذلك عدد المهمات العسكرية والأنشطة والبرامج والتدريبات هناك بنسبة 1900% (من 172 إلى 3500)، وازدادت وتيرة عمليات القصف للطائرات من دون طيار، وانتشرت قوات «الكوماندوس» توازياً مع اتساع حجم قواعد «أفريكوم» العسكرية ونطاقها. بحسب تعريفها، فإن «أفريكوم» «تعرقل التهديدات العابرة للحدود وتحيّدها» من أجل «تعزيز الأمن الإقليمي والاستقرار والازدهار». لكن منذ وُجدت، تراجعت المؤشرات الرئيسة للأمن والاستقرار في أفريقيا، وفقاً لـ«مركز أفريقيا للدراسات الاستراتيجية» التابع لوزارة الدفاع الأميركية «البنتاغون». بحسب تحليل المركز في تموز/ يوليو، فإن «نشاط الجماعات الإسلامية المتشددة في أفريقيا تَضاعف منذ عام 2012»، حيث تنشط نحو 24 «جماعة إسلامية مسلحة» في القارة، مقارنة بخمس جماعات في عام 2010. وتواجه 13 دولة أفريقية، في الوقت الراهن، هجمات على أيدي هذه الجماعات بزيادة 160%، مقارنةً بالفترة الزمنية نفسها في 2010. وفيما أسهمت مجموعة عوامل في تصاعد العنف، يرى بعض الخبراء أن التداخل بين وجود القيادة العسكرية الأميركية والاضطرابات المتزايدة ليس مِن قبيل الصدفة. في هذا الإطار، يقول مدير مشروع الأسلحة والأمن في «مركز السياسة الدولية»، وليام هارتونغ، إن «الزيادة الحادة في الحوادث الإرهابية في أفريقيا تؤكد أن النهج العسكري المفرط في تعامل البنتاغون مع المشكلة كان بمثابة فشل محزن».