كما كان متوقعاً، تمكّن الديموقراطيون، أول من أمس، من عزل الرئيس دونالد ترامب في مجلس النواب، مستغلّين الأكثرية التي يملكونها فيه، لتحقيق ما وصفه البعض بـ«المآرب السياسية». مآرب تمثّلت في فوز مؤقت، سيتبعه فشلٌ محقّق في مجلس الشيوخ، قد يلقي بظلاله على الانتخابات الرئاسية التي ستجرى عام 2020. ومع إدراك الديموقراطيين أهمية هذا المفصل التاريخي، قرّروا استنفاد الورقة التشريعية إلى حدّها الأقصى، في محاولة لتحصيل انتصار ما في مجلس الشيوخ، عبر مفاوضة زعيم الغالبية هناك على شروط جلسات المحاكمة.بدا ذلك واضحاً غداة إدانة الرئيس الـ45 للولايات المتحدة في مجلس النواب. فبالرغم من موافقة المجلس على تهمة استغلاله للسلطة بأغلبية 230 صوتاً مقابل 197، وإقرار المجلس تهمة عرقلة عمل الكونغرس بأغلبية 229 صوتاً مقابل 198، إلا أن رئيسة مجلس النواب، ناسي بيلوسي، آثرت الاحتفاظ بإجراءات العزل وعدم تحويلها إلى مجلس الشيوخ، حتى «التأكد» من إجراء محاكمة عادلة. خطوة تُعزى إلى الخشية من حقيقة سيطرة الجمهوريين على غرفة الكونغرس العليا بـ53 سيناتوراً مقابل 47، خصوصاً وأنه سبق لهؤلاء أن أكدوا أنهم يعتزمون تبرئة ترامب من هاتين التهمتين. لذا، جاء تصريح بيلوسي، في حديثها إلى الصحافيين بعد التصويت، عن تجميد إجراءات العزل، وعدم إرسال عريضة الاتهام رسمياً إلى مجلس الشيوخ، ليثير الشكوك في شأن الخطوة المقبلة في استراتيجية الديموقراطيين. وقد كان بعض هؤلاء قد طالبوا بتأجيل إرسال عريضة الاتهام، لعدم ثقتهم بوجود ضمانات كافية لمحاكمة جادة وعادلة من الجمهوريين. وأشارت بيلوسي إلى ذلك بقولها: «لم نلمس أيّ إشارات على أن المحاكمة ستكون عادلة من جانب الجمهوريين»، مضيفة: «ربما في المستقبل، دعنا نرَ ماذا سيحدث».
ما يسعى إليه الديموقراطيون هو سماع شهادة كبير موظفي البيت الأبيض بالإنابة مايك مولفاني، ومستشار الرئيس للأمن القومي السابق جون بولتون، الأمر الذي يرفضه زعيم الغالبية ميتش ماكونيل، كما كان قد رفضه البيت الأبيض في السابق، عندما استدعاهم الديموقراطيون أمام مجلس النواب. ويعتمد ماكونيل، في ذلك، على أن الدستور يمنحه سلطة تولّي تحديد إجراءات المحاكمة، وتحديد الشهود، والتحكّم في مسار المناقشات في شأن بندَي الاتهام. وهو إذ يشير إلى أن استدعاء الشهود من صلاحيات مجلس النواب، يؤكد أن لا شيء يُلزم مجلس الشيوخ بالقيام به، إذ إن عليه أن ينظر في الأدلّة المقدّمة من قِبَل النواب.
حضّ ترامب حلفاءه أمس على السيطرة بشكل صارم على مجريات محاكمته


مع ذلك، يبقى عامل الوقت غير ملائم للديموقراطيين، كما هو بالنسبة إلى ترامب. صحيح أن من شأن عدم تقديم عريضة الاتهام لمجلس الشيوخ استنزاف الرئيس، بإبقائه تحت ضغط عدم انتهاء قضية عزله بدلاً من التركيز على حملة إعادة انتخابه، إلا أن استراتيجية الديموقراطيين قد تفضي إلى انقلاب الرأي العام ضدهم، في وقت تتطلّع فيه غالبية الأميركيين إلى طيّ صفحة قضية عزل ترامب. ومن هذا المنطلق، حضّ ترامب حلفاءه، أمس، على السيطرة بشكل صارم على مجريات محاكمته أمام مجلس الشيوخ، وضمان تبرئته بشكل سريع. إجراءٌ، في حال تحقّقه، من شأنه جعله في موقف أقوى وفق ما يرى البعض، ما يسمح له بالشروع في الحملة الانتخابية العام المقبل من دون سيف مصلت على رأسه، بل إن «التبرئة» قد تكون أداته لإعادة انتخابه. إضافة إلى ذلك، سيشدد ترامب على أن الديموقراطيين ووسائل الإعلام لم يقبلوا أبداً فوزه عام 2016، بل سعوا إلى نقض حكم الناخبين، وهو ما بدأه بالفعل. واستناداً إلى هذه الفكرة، جاء تأكيد صحيفة «وول ستريت جورنال» أن ترامب سيُبرّأ في مجلس الشيوخ، و«الديموقراطيون ربما يكونون قد ساعدوا في إعادة انتخابه». وذهبت الصحيفة إلى حدّ التأكيد أن الديموقراطيين فشلوا في إقناع الرأي العام، معتبرة أنهم بدوا غير صادقين، في الوقت الذي كانوا فيه غير عادلين، عبر عدم قبولهم استدعاء الشهود الذين طالب بهم الجمهوريون إلى جلسات الاستماع. الأمر لا ينتهي هنا، فقد ألقت الصحيفة الضوء على ضعف حجّة الديموقراطيين، ورأت أنهم بنوا قضيتهم على حلقة من فصول تهوّر ترامب، لـ«تشويهها وتحويلها إلى ادعاءات بالرشى والابتزاز». أما الدليل الآخر على الضعف، فهو أن نصوص الاتهام ضمن إجراءات العزل لا تتضمن أيّ ادعاءات بجرائم محددة. وفي هذا الإطار، أشارت الصحيفة إلى أن الديمقراطيين اتهموا الرئيس بـ«سوء استخدام السلطة» وعرقلة الكونغرس، موضحة أن «التهمة الأولى عامّة جداً»، بينما التهمة الثانية تتلخّص في أنه توجّه إلى المحكمة لحماية سلطات مكتبه، مُذكّرة بأن كل رئيس معاصر قام بذلك في مسائل عدّة، بمن فيهم بيل كلينتون وباراك أوباما.
بالرغم من ذلك، ليس من الواضح كيف ستؤثر إجراءات العزل على الانتخابات، خصوصاً أنه لم يسبق أن ترشّح أيّ رئيس للانتخابات بعد إجراء مماثل. كما لم يترشّح أيّ أحد من قبل ضد رئيس خضع للعزل. لكن كلّ ما تقدّم لا يمنع من القول إن التصويت الذي حصل في مجلس النواب، أول من أمس، تاريخيٌ في جوانب عدّة. ففي تاريخ الولايات المتحدة بأسره، لم يُحلْ إلا رئيسان للمحاكمة أمام مجلس الشيوخ، هما آندرو جونسون في عام 1868 وبيل كلينتون في عام 1998، وقد بُرّئ كلاهما في مجلس الشيوخ. أما ريتشارد نيكسون، فقد استقال في عام 1974 قبل أن يصوّت مجلس النواب على إحالته إلى المحاكمة على خلفية «فضيحة ووترغيت». وبناءً على المعطيات الماثلة إلى الآن، بات من الواضح أن ترامب، مثل الرئيسين الآخرين، سيبرّئه مجلس الشيوخ، ولكن أيضاً مثلهما، سيضاف هذا الإجراء إلى سجلّه، وربما يلطّخ ما قد يتركه من إرثٍ.