هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأميركي الأسبق، من منظور غالبية شعوب جنوب الكوكب، أحد كبار مجرمي القرن العشرين. هو مسؤول، إلى جانب الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون، عن تصعيد الحرب في فيتنام وكمبوديا واللاووس، وعن دعم الانقلابات العسكرية في أميركا الوسطى واللاتينية، وزيادة الانحياز الأميركي غير المشروط لإسرائيل. لا حاجة إلى التذكير بالويلات والمآسي التي سبّبتها هذه السياسات، التي أسهم في صناعتها، بالنسبة إلى الشعوب المذكورة. لكن للصينيين رأياً آخر في «الصديق» أو «العزيز» هنري، كما كان يسمّيه الرئيس المصري الأسبق أنور السادات. فالرجل كان مهندس فكّ الاشتباك الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والصين، والذي يعتبره الصينيون منعطفاً تاريخياً بالنسبة إلى بلادهم، لعب دوراً حاسماً في نهضتها الاقتصادية والتكنولوجية اللاحقة. الاعتبار الاستراتيجي الذي حكم موقف كيسنجر معروف، وهو التركيز على الصراع مع الاتحاد السوفياتي، العدو الأخطر آنذاك، واستغلال التناقضات بينه وبين الصين للتقاطع والتعاون مع هذه الأخيرة ضدّه، وهو ما تم بالفعل في ما بعد. اللافت اليوم، بعد المتغيرات الهائلة التي شهدها الوضع الدولي، وتَشكّل ما يشبه الإجماع بين النخب الأميركية على اعتبار الصين التهديد الرئيس، هو خروج كيسنجر عليه، والذي لا يمكن تفسيره بدوافع عاطفية كوجود هوًى صيني لديه أو صداقات قديمة وحجج من الطراز نفسه.قبل لقائه مع الرئيس الصيني شي جين بينغ، في 22 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي في بكين، حذّر هنري كيسنجر في محاضرة في نيويورك في الـ14 من الشهر الجاري، أمام «اللجنة الوطنية للعلاقات بين الصين والولايات المتحدة»، من «نتائج كارثية أسوأ من الحروب العالمية» في حال ارتفاع حدّة المواجهة بين واشنطن وبكين، بسبب عدم تمكّن البلدين من إيجاد حلول لخلافاتهم. الرجل الذي لم يُعرف عنه حسّ إنساني مرهف، اعترف بأن «تطور الصين في عدّة مجالات يمثل تحدّياً بالنسبة إلى الولايات المتحدة»، لكنه أضاف أن «على الدولتين أن تدركا أن صراعاً مستمرّاً بينهما لن ينتهي بانتصار إحداهما على الأخرى... إن لم يتمّ التوصل إلى حلّ ستؤول الأوضاع إلى ما هو أسوأ من الحروب العالمية التي دمّرت الحضارة الأوروبية. لم يعد من الممكن الاعتقاد بأن طرفاً سينجح في السيطرة على الآخر. عليهما التأقلم مع واقع أنهما أمام هذا النمط من الخصومة». وختم مُذكِّراً بأن «العلاقات بين البلدين شابتها تباينات وخلافات في بدايتها، لكننا تعلّمنا التعايش معها لعقود»، معرباً عن أمله في إيجاد تسوية إيجابية للحرب التجارية. الرئيس الصيني أشاد، من جهته، بجهود كيسنجر لتطوير العلاقات الصينية - الأميركية، مؤكداً أن «التاريخ سيسجّل مساهمته المهمة في هذا الميدان». غير أنه أشار إلى أن هذه العلاقات «تمرّ بمرحلة حرجة تتزايد فيها المصاعب والتحدّيات»، داعياً الدولتين إلى تطوير التواصل بينهما حول القضايا الاستراتيجية لـ«تجنّب سوء الفهم والتقدير وإتاحة الفرصة لتفاهم أفضل».
ما زالت الصين تتبع سياسة خارجية تفسح في المجال أمام احتمال التوصل إلى تفاهمات


قوبلت دعوة الرئيس الصيني الجديدة إلى التفاهم بتوقيع نظيره الأميركي على قانون يدعم المتظاهرين «المدافعين عن الديمقراطية» في هونغ كونغ صوّت عليه الكونغرس. لا تُفوّت إدارته وأبرز أعضائها مناسبة للتوتير مع الصين من خلال تصريحات أو قرارات: تقارير «البنتاغون» الاستراتيجية، الحرب التجارية، كلام دونالد ترامب عن تكليف إلهي بالتصدي للصين، تحديد وزير الدفاع مارك إسبر للأخيرة على أنها التهديد الاستراتيجي الطويل الأمد للولايات المتحدة، تعيين أميركية من أصل إيغوري كمسؤولة عن ملف الصين في مجلس الأمن القومي، الدعم المباشر السياسي والإعلامي والمادي للاحتجاجات في هونغ كونغ، والتي يرفع الكثير من المشاركين فيها الأعلام الأميركية، إلخ... يكشف هذا السلوك عن استعجال أميركي لرفع سقف المواجهة.
الصين، وعلى الرغم من استعراض القوة الذي أجرته بمناسبة الذكرى السبعين لإقامة نظامها الاشتراكي، ما زالت تتبع سياسة خارجية تفسح في المجال أمام احتمال التوصل إلى تفاهمات ولو آنية، وتخفيض للتوتر مع أميركا. لا يتناقض هذا التوجه مع اقتناع قيادتها بحتمية استعار المواجهة معها، لكنها تسعى إلى تأجيل ذلك قدر المستطاع. استقبال شي جين بينغ لكيسنجر، الذي اجتمع لأكثر من مرة مع ترامب في بداية عهده، والذي يمثل بقايا المدرسة الواقعية في النخبة الأميركية، «إشارة حسن نوايا»، تبدي الاستعداد للبحث عن تفاهمات. لكن حديث كيسنجر عن عدم قدرة أيّ من الصين أو الولايات المتحدة على الانتصار في أيّ مواجهة بينهما، وتحذيره من الأهوال التي ستنجم عنها، ودعوته إلى التسوية بينهما، دليل قاطع على أن التيار الأكثر عقلانية في نخبة الأمبراطورية موقن بحقيقة انحدارها، ويوصي باعتماد سياسة التراجع المدروس، من السعي لتأبيد الهيمنة الأحادية إلى خيار التعايش مع ندّ صيني.