مع انتهاء الحرب الباردة في عام 1990، كانت الولايات المتحدة لا تزال تحتفظ بأكثر من 200 ألف جندي يتمركزون في الجزء الغربي مِن ألمانيا، بينما أبقى الاتحاد السوفياتي على أكثر من 400 ألف جندي في الجزء الشرقي من البلاد، أكملوا انسحابهم بحلول عام 1994. لكن قوات «حلف شمالي الأطلسي» بقيت حيث هي غرباً، وعديدها حالياً حوالى 38 ألف جندي أميركي يتمركزون على الأراضي الألمانية. وضعت واشنطن حليفتها برلين (وباقي دول أوروبا المنضوية في «الناتو») أمام خيارٍ من اثنين: «تقاسم عبء» تمويل الحلف، أو أنها ستكون مضطرة الى سحب أو نقل جنودها من غرب أوروبا، لتحقيق أهداف الإنفاق الدفاعي. مع هذا، لم تنفّذ الولايات المتحدة، لغاية الآن، تهديدها. ربّما يكون السبب وراء ذلك أن الجيش الأميركي ينسّق عملياته في أفريقيا وآسيا، بشكل رئيس، مِن قواعده في ألمانيا.ألقى بومبيو، يوم أمس، خطاباً من العاصمة الألمانية حول «الدروس المستفادة» من سقوط جدار برلين. استذكر أيامه كجنديّ شاب في الجيش الأميركي في مدينة بندلاش البافارية، قبل أشهر قليلة على انتهاء الحرب الباردة. وأشاد بالتعاون الأميركي ــــ الألماني الذي ساعد في «إنهاء هذا العمل». «علينا واجب، كل واحد منّا (الولايات المتحدة وحلفاؤها)، أن ندافع عن المكاسب التي تَحقّقت بشقّ الأنفس في 1989». مقاربة «شقّ الأنفس» يبدو أنها تختلف بعض الشيء لدى الجهة المقابلة. وزير الخارجية الألماني، هايكو ماس، أثار جدلاً عندما قرّر عدم ذكر الولايات المتحدة في قائمة الأشخاص الذين شكرهم على «إعادة التوحيد». كتب في مقال نُشر هذا الأسبوع: «وحدة ألمانيا كانت هدية من أوروبا إلى ألمانيا». شكر المتظاهرين السلميين، والزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف. لم يكن ماس قادراً على قول أيّ شيء إيجابي عن أميركا، لكنه استغلّ مؤتمراً صحافياً مشتركاً مع نظيره الأميركي، أول من أمس، لتأكيد أهمية التحالف «الآن، وقبل 30 عاماً»؛ «لولا قيادة الولايات المتحدة، لما كانت هناك إعادة توحيد...».
ولأن «الغرب ضلّ الطريق في سكرةِ تلك اللحظة الجليلة»، شدّد بومبيو على «أنه لا يمكننا أبداً أن نعتبر الأمور مسلَّماً بها». عند هذه النقطة، بدا طرح الوزير الأميركي أكثر وضوحاً. أشار إلى أن «الأطلسي» قد يكون «ولّى عليه الزمن»، إذا اعتقدت الدول أن في إمكانها الحصول على الأمن من دون تزويد الحلف بالموارد التي يحتاج إليها، وإذا لم تفِ بالتزاماتها (دفع 2% من الناتج المحلي الإجمالي للدفاع، لموازنة التزام الولايات المتحدة البالغ 3.5%)، وفي حال عدم خوض القادة «التحديات الجديدة». لا شكّ في أن نعي الرئيس الفرنسي للحلف بسبب غياب التنسيق بين أوروبا وواشنطن حفّز ذاكرة بومبيو، إذ ذكّر بانسحاب فرنسا في ستينيات القرن الماضي من قيادة التحالف، معتبراً أن تصريحات ماكرون مجرّد «ضجيج».
يُعدُّ هذا الخلاف مِن بين العديد مِن القضايا الأخرى التي تُفسِد الودّ على ضفتَي الأطلسي: الاتفاق النووي الإيراني، واتفاق باريس للمناخ، ومشروع خط أنابيب الغاز الروسي ــــ الأوروبي «نورد ستريم 2»، والانسحاب الأميركي المفاجئ من سوريا، مضافاً إليها الحرب التجارية التي أشعلها ترامب عبر الأطلسي من خلال فرض رسوم جمركية على الصلب والألومنيوم، فضلاً عن البضائع الرمزية مثل الأجبان والنبيذ. بحسب المؤرّخة في كلية لندن للاقتصاد، كريستينا سبور، «أصبحت العلاقة بين ضفتَي الأطلسي في حالة يرثى لها»، و«هناك الكثير من علامات الاستفهام التي تحيط بمستقبل الناتو وعلاقة أميركا بألمانيا».
بومبيو: علينا واجب أن ندافع عن المكاسب التي تَحقّقت بشقّ الأنفس في 1989


بالعودة إلى «التحديات الجديدة»، طالب بومبيو بأن «نعترف بأننا في تنافس على القيم مع دول غير حرة»، وحذّر من «خطر» روسيا والصين (تُعدّ الأخيرة أكبر شريك تجاري لألمانيا). وعلى خلفية تصاعد التوتر بين الشرق والغرب، أقرّ الوزير الأميركي بأن «حلف شمالي الأطلسي يحتاج إلى تغيير وتطوير وكذلك إلى مواجهة الوقائع الحالية والتحديات الآنية»، لأن «لدى الدول الغربية الحرة مسؤولية درء التهديدات عن شعوبنا» من حكومات مثل الصين وروسيا وإيران. وركّز على نقاط حسّاسة في علاقة واشنطن ببرلين، قائلاً إن خط أنابيب الغاز الذي تبنيه روسيا لنقل الغاز إلى ألمانيا يعني أن «إمدادات أوروبا من الطاقة... تعتمد على أهواء (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين». كذلك، حذّر من نيات «شركات صينية بناء شبكات اتصال من الجيل الخامس» بعد عدم استبعاد الحكومة الألمانية عملاق التكنولوجيا «هواوي» من عملية استدراج عروض البنية التحتية لشبكات الجيل الخامس للاتصالات.
يقول جون كورنبلوم، سفير الولايات المتحدة لدى ألمانيا بين عامَي 1997 و2000، إن العلاقة بين البلدين أُعيد ضبطها قبل مجيء ترامب. «هذه الإدارة ليست معطاء كثيراً حين يتعلّق الأمر بالعلاقات، لكن المشاركة الأميركية في أوروبا تتضاءل، وإن ببطء، منذ عهد إدارة جورج بوش». ترامب نفسه سخر من العلاقة عبر الأطلسي منذ وقت سقوط جدار برلين. استعادت «واشنطن بوست» ما كان قد صرّح به لمجلة «بلاي بوي» في آذار/ مارس 1990، حين قال: «أعتقد أن بلدنا في حاجة إلى المزيد من الأنا، لأنه تمّ تدميرها بشدة من قِبَل حلفائنا المزعومين، مثل: اليابان وألمانيا الغربية والمملكة العربية السعودية وكوريا الجنوبية...». «نحن الأميركيين يَسهل الضحك علينا للدفاع عن الدول الغنية من أجل لا شيء... دولٌ سوف تُمحى من على وجه الأرض في 15 دقيقة إذا رفعنا الغطاء عنها».