في لبنان قيمة استثنائية لهمس السفراء والقناصل. تكفي دردشة مع موظف في سفارة لقلب مزاج زعيم فيأخذ أنصاره نحو مغامرة غير محسوبة. بات الناس مقتنعين بأن هؤلاء يحرّكون كلّ شيء. وكما لاحظ المفكّر جورج قرم: «ليست مصادفة أن يكون أهمّ مصدر معرفي في تاريخ لبنان الحديث، هو تقارير القناصل في بيروت إلى دولهم». إن «ثقافة القناصل» تلك تتحكّم بالحياة السياسية الوطنيّة، أكثر من أي وقت مضى، كما كشفت بالأمس غير البعيد وثائق «ويكيليكس». مسؤولون وصحافيون ومحلّلون جلسوا «يتشاورون» مع سفير «الإمبراطورية» في الاستراتيجيات الدولية!منذ سنوات انتزعنا في «الأخبار»، حقّ التشهير بالمتآمرين وأصحاب الدسائس، بعد نشرنا العديد من الوثائق السرية السعودية، بعضها بالتعاون مع مؤسسة «ويكيليكس»، وأخرى من مصادرنا الخاصة. لكنّنا اليوم أمام نوع آخر من السموم، أمام مخطّطات شيطانيّة على درجة من الخطورة، يحرّك خيوطها الأمير الجاثم على مقدّرات الجزيرة العربية. وقد حصلت «الأخبار» أخيراً على واحدة من تلك الوثائق السريّة التي تسلّط الضوء على غطرسة الرجل، ونواياه العدائيّة التدميرية، وهي تصنّف حكماً في خانة «جنون العظمة».
ما سنكشف عنه في هذه الحلقات، هو عصارة «الفكر الاستراتيجي» السلماني، كما يتجلّى في وثيقة بعنوان: «مواجهة السیاسات العدائیة للنظام الإیراني في المنطقة». إنّها خطّة عمل سعودية مرفوعة إلى إدارة دونالد ترامب، في عام 2017، تستهدف شنّ حرب غير مباشرة، على إيران ولبنان واليمن، من خلال حملات عدائيّة ومؤامرات ودسائس، لزعزعة استقرار هذه الدول، وخنق اقتصاداتها، وخديعة شعوبها، وشراء نخبها، والتآمر على حكوماتها.
محمد بن سلمان المستعدّ لإحراق المنطقة إرضاءً لدونالد ترامب وهوسه المرضيّ، تبيّن أن بعض مستشاريه ودبلوماسييه استمعوا حقاً لـ «زوارهم». «أيام الاستعمار الجميل» كان القنصل الفرنسي يتقرّب من مختار محلّة من أجل هدف صغير أو سطحي، فيما اليوم «الدبلوماسية» السعودية قائمة على تسلّم عروض من مستشارين معدومي المعرفة والكفاءة ويعملون مع شركات العلاقات العامة. اليوم، وبعد مرور أكثر من عامين على مقترح «مواجهة السیاسات العدائیة للنظام الإیراني في المنطقة»، تظهر رعونة الفكرة، على خطورتها، وفشل تنفيذها. الأمير الطائش يظن أن بوسعه أن يتعامل مع إيران، كأنّها جريمة تقطيع صحافي يختلف معه داخل قنصلية بلاده، أو حتى خطف رئيس وزراء حليف وإجباره على الاستقالة والتحضير لفوضى في بلد هذا الحليف العزيز.
ابن سلمان قال في أيار 2017 إنه سينقل المعركة إلى الداخل الإيراني. هي الفترة ذاتها التي أنهى فيها فريقه «خطة قلب النظام» وطار بها إلى واشنطن، لتُقدّم كخطّة استراتيجيّة ستغيّر مجرى التاريخ في المنطقة. الخطة تقترح «فريق عمل» موازياً لفريقها ليقوما معاً بـ «مواجهة سياسات النظام الإيراني».
لنتصوّر أن وليّ العهد سيعيش حتى يبلغ عمر والده... أي أن العالم سيكون عليه احتماله حتى عام 2070!


يقدّم ولي العهد السعودي نفسه، كما تُظهر الوثيقة، بصفته الدماغ الذي يحضّر «الأرضية الثورية» كي يحتفل جون بولتون بالانتصار في طهران، حاجزاً لنفسه مكاناً إلى طاولة صانعي «النظام الجديد». في الحقيقة، سيدخل التاريخ بصفته رمزاً لأكثر نظام تعرّض للتقريع والإهانة في التاريخ المعاصر. من سمع ترامب يقول: «السعودية لا تملك سوى المال لذلك يستطيعون أن يدفعوا لنا من أجل الدفاع عنهم»، كيف يصدّق أن هذا النظام يريد تغيير وجه المنطقة؟ كيف لهذا الأمير الأرعن، كما يكشف الجزء من الوثيقة المتعلق بـ «مواجهة حزب الله في لبنان»، أن يقوم بتقييد وإضعاف الحزب؟ لا شك أن في واشنطن من ابتسم بلؤم وهو يقرأ هذه الصفحات…
في مقرّ السفارة الأميركية في بيروت، توجد ملفات مكدّسة عن العمل في مناطق حزب الله وعن دعم شخصيات وفئات مناهضة له. صرّح الأميركيون أنّهم أنفقوا خلال سنوات قليلة نحو نصف مليار دولار لهذا الغرض، ولتمويل جمعيات تعمل في «بيئته»… هناك عشرات الكتب والأبحاث والتقارير الصادرة في السنوات الأخيرة المُفصِّلة عن الحرب الاستخبارية والاقتصادية الأميركية على حزب الله. وها هي عبقرية ابن سلمان ومستشاريه تتفتق عن خطة لمراقبة الحدود البحرية والبرية للبنان، وكف يديّ الحزب عن «المرافئ الدولية»، وإطلاق فرق كشافة تمهّد لتشكيل «ميليشيا معتدلة ووطنية» تُجابه حزب الله.
إذا وضعنا جانباً خطة «قلب النظام» في طهران (!) فإن السعودية تُعدّ في لبنان جزءاً من «التركيبة»، ولديها حضورها وعلاقاتها وأدواتها وأموالها… فما الذي حققته من أهدافها الاستراتيجيّة؟ لم تمرّ شهور على طرح خطة مواجهة حزب الله حتى كان الأمير الشاب يلعب «سولو». خَطَف الرئيس سعد الحريري معلناً عن «انقلاب سياسي» في بيروت من شاشة قناته «العربية»، وتوّجت خبطته العبقريّة بـ «النجاح» الذي نعرف…
أمره عجيب هذا الأمير. لن يستسلم محمد بن سلمان وإن حوصر في قصر اليمامة. فَشِل في لبنان، أُهين في سوريا، هُزم في اليمن، هُمّش في العراق. وما زال يتعامل مع شعوبنا كأنه أمام لعبة فيديو ويمتلك عدداً غير محدود من المحاولات. لنتصوّر لحظة أن ولي العهد الحالي سيعيش حتى يبلغ عمر والده... أي أن العالم سيكون عليه احتمال ابن سلمان حتى عام 2070!