لا يبدو أن «رحلة نيويورك» آتت أكلها عند الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان. فقبل ذهابه للمشاركة في اجتماعات الأمم المتحدة، كان الأخير يشير تكراراً في تصريحاته ومقابلاته إلى اللقاء الذي سيجريه مع نظيره الأميركي، دونالد ترامب. ومنذ مطلع الشهر الجاري، كان إردوغان يرسل رسائل تلو أخرى حول منطقة شرقي الفرات، ولا سيما ما سمّي «المنطقة الآمنة»، محذراً من أنه إذا لم يُفعّل الاتفاق التركي ــــ الأميركي حول هذه المنطقة قبل آخر الشهر، فسيبادر إلى التدخل العسكري بصورة أحادية. هكذا، ضرب موعداً لبحث هذا الموضوع وغيره في اللقاء الذي أشار أكثر من مرة إلى أنه سيعقده، قائلاً إنه سيعمل على إقناع ترامب بوجهة نظر بلاده بشأن «المنطقة الآمنة». ولذا، علّقت أوساط كثيرة أهمية على اللقاء من أجل الخروج منه بترتيبات محددة تدخل «المنطقة الآمنة» حيز التنفيذ.المفاجأة أن اللقاء المنتظر لم يتحقق، وعاد إردوغان إلى تركيا خالي الوفاض، بعدما اكتفى بلقاءات هامشية. حتى إنه من المسؤولين الأميركيين لم يلتقِ شخصية معروفة سوى السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام، ثم اكتفى بالمشاركة في حفل الاستقبال الذي أقامه ترامب على شرف رؤساء الدول المشاركة، والتقاط صورة رباعية مع ترامب، وزوجتيهما. لا يُعرف السبب في إخفاق اللقاء. حتى إن إردوغان في لقاءاته مع الإعلام، ولدى عودته أيضاً إلى بلده، لم يتطرق بتاتاً إلى الموضوع. لكنّ اكتفاءه بالتحادث هاتفياً مع ترامب الذي كان في طائرته إلى هيوستن، مؤشر على أن العلاقات لم تشهد أي تحسن، كما أن الاتفاق حول «المنطقة الآمنة» متعثر، ولم يتم بعد تجاوز أزمة صفقة «أس 400».
في حواراته التلفزيونية في نيويورك، ومنها مع «فوكس نيوز»، اعترف الرئيس التركي بأن «بعض التقدم قد تحقق بشأن المنطقة الآمنة، لكن هناك الكثير مما لم نتفق عليه بعد». وأبدى خشيته الضمنية من أن يكون موقف ترامب السابق في أوساكا، بتبرير صفقة «أس 400»، وهو ما كان قد أعطى، وفق إردوغان، أملاً بتطوير العلاقات، عاد إلى نقطة ما قبل لقاء أوساكا. وقال: «تصريح ترامب في أوساكا مَنَحني أملاً كبيراً. وأنا لا أريد أن أخسر هذا الأمل. بالنسبة إلينا، مسألة صواريخ أس 400 يجب ألا تكون قطعاً سبباً في تخريب العلاقات التركية ــــ الأميركية، لأن تركيا تحتاج إلى هذا النوع من منظومة الدفاع الجوي، فضلاً عن أن صواريخ أس 400 موجودة في اليونان وبلغاريا وسلوفاكيا. هذه الدول أعضاء في حلف شمالي الأطلسي. إذا كانت لديها هذه الصواريخ، فلماذا لا تكون موجودة في تركيا؟».
بعد هذه الخشية، وخيبة الأمل من صفعة اللقاء، انتظر إردوغان، عشية عودته، اللقاء التقليدي مع الصحافيين الأتراك ليصب جام غضبه على ترامب. فقال إن تركيا ليست بلداً يمكن التلاعب به، وإن الرئيس الأميركي يواصل حمايته لـ«حزب العمال الكردستاني»، ومحاولة التلاعب بتركيا رغم تفاهم «المنطقة الآمنة». وأضاف: «خطط المنطقة لا تزال قائمة وسنقيّم الوضع ونرى كيف يمكن معالجة مشكلة أربعة ملايين لاجئ سوري أنفقنا عليهم حتى اليوم أربعين مليار دولار». كما ذكر أنه اقترح على الأميركيين شراء منظومة «باتريوت» إلى جانب «أس 400» كما شراء طائرات «أف 35»، مشيراً إلى أن الوضع في إدلب مستقر، «لكنه يحتاج إلى متابعة الأوضاع الإنسانية».
ما يجري مؤشر على تعثّر «المنطقة الآمنة» واستمرار أزمة «أس 400»


لكنّ محطة إردوغان الأساسية في نيويورك كانت خطابه في الأمم المتحدة، إذ تطرق إلى موضوعات عدة، مع أن ما لفت المحللين الأتراك عرضه خريطتين مفصلتين وملونتين: الأولى عن فلسطين والثانية عن سوريا. تحدّث بالخرائط عن تغير حدود إسرائيل، متسائلاً: «أين هي حدود إسرائيل؟ أتلك التي في 1947 أم 1967 أم الآن؟ إنها لا تشبع من الاحتلال»، منتقداً عجز الأمم المتحدة. كما عرض خريطة ثانية خاصة بسوريا ظهر فيها تقسيم البلد إلى مناطق النفوذ: مناطق سيطرة الدولة ومناطق «قوات الحماية الكردية» المدعومة من الأميركيين، ومناطق الجيش التركي ــــ «الجيش السوري الحر». وكان لافتاً رسمه على الخريطة حدود «المنطقة الآمنة» في شمال شرق سوريا بعمق معين، لكنه قال: «يمكن أن نوسع عمق هذه المنطقة لتصل إلى خط يمتد من دير الزور إلى الرقة بحيث تتسع لاستيعاب ثلاثة ملايين لاجئ سوري من أوروبا ومناطق أخرى».
تعقيباً على ذلك، قال الكاتب في صحيفة «جمهورييت» محمد علي غوللر، إنه ما لم يكن لدى إردوغان هدف خاص ومحدد من عرض هاتين الخريطتين بهذه الطريقة، فسيكون هذا العرض «كارثة تكتيكية كاملة». فبقدر ما كان محقاً في عرض الخريطة الخاصة بفلسطين، كان غير محق في عرض خريطة تقسيم سوريا. النتيجة التي تخلص من عرض الخريطتين معاً: إظهار سوريا المقسمة من أعلى المنابر الدولية هو إعطاء مشروعية لخريطة إسرائيل الموسعة! ويتابع غوللر إنه لا يريد أن يصدّق أن إردوغان يريد بعرض خريطة إسرائيل الموسعة إعطاء مشروعية لخريطة سوريا المقسمة، قائلاً إن عرض خريطة سوريا ليس لمصلحة تركيا، لأن «مصلحة تركيا في سوريا الموحدة، وإصرار تركيا على تأسيس منطقة آمنة مع الولايات المتحدة في سوريا خلافاً لرغبة الدولة هو إنشاء فعلي لدويلة قوات الحماية الكردية». ويضيف: «البنتاغون يؤكد أن المنطقة الآمنة تنشأ لحماية قوات الحماية الكردية. والإصرار على خريطة سوريا مقسمة هو إطلاق نار على تركيا». ويؤكد الكاتب أن تمزيق هذه الخريطة يمكن فقط عبر سياسة خارجية صحيحة قوامها التفاهم مع دمشق على سوريا موحدة الأراضي.
في هذا الوقت، ربما يزيد تقرير أميركي جديد التوتر بين تركيا والولايات المتحدة، فقد أصدر «معهد سلام الأمم المتحدة»، التابع للكونغرس الأميركي، تقريراً أعدته «مجموعة عمل سوريا»، جاء فيه أن تسليح واشنطن لـ«قوات سوريا الديموقراطية»، رغم أنه ألحق الضرر بالعلاقات التركية ــــ الأميركية، ساهم في منع أنقرة من عملية عسكرية ثالثة (بعد «درع الفرات» وعفرين) شرقي الفرات. ويذكر التقرير أنه لا يبدو أن تركيا في وارد التخلي عن السيطرة على «درع الفرات» وعفرين، ويرى أن انسحاباً مبكراً للقوات الأميركية من سوريا سيؤدي إلى خسارة واشنطن كل مصالحها هناك، بل دعا إلى زيادة عدد القوات شرقي الفرات، مشجعاً واشنطن على مصالحة أنقرة مع «قوات سوريا الديموقراطية» وإعطاء الأكراد حكماً ذاتياً، مع تشديد الضغط على الرئيس السوري، بشار الأسد، و«تقديمه إلى المحاكمة».