تكاثرت في الأسبوعين الماضيين المؤشرات المتناقضة حول الوجهة التي ستتخذها المواجهة الأميركية ــــ الإيرانية. فالوساطة الفرنسية، ومواقف المسؤولين الأميركيين، بدءاً من التأكيدات المتكررة لدونالد ترامب في شأن عدم رغبته في الحرب مع إيران، وصولاً إلى تلك الصادرة عن وزير الدفاع مايك إسبر، التي أعلن فيها الحاجة إلى العودة إلى المسار الدبلوماسي معها، من دون إغفال التحولات اللافتة في الموقف الإماراتي، وكلام السفير السعودي في الأمم المتحدة عن ضرورة الحل السياسي للأزمة الحالية، جميعها معطيات تعزز الانطباع بإمكانية ترجيح خيار التفاوض بين طهران وواشنطن. لكن تطورات أخرى، آخرها قرار أميركي بإرسال 500 عسكري إلى قاعدة الأمير سلطان في السعودية، والسعي الأميركي المحموم لبناء تحالف لحماية «حرية الملاحة» في الخليج، وقبلهما إعلان ترامب إسقاط طائرة مسيّرة إيرانية نفته طهران، واحتجاز الحرس الثوري سفينة ترفع العلم البريطاني بعد عدة أيام على احتجاز بريطانيا ناقلة نفط إيرانية في جبل طارق، تفيد بأن التصعيد مستمر بين الطرفين، وأن احتمالات وقوع صدام مباشر بينهما تتزايد. الحقيقة الأولى التي ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار عند محاولة فهم الوضع الحالي هي أن وجود قنوات للتواصل والتوسط والتفاوض لا يلغي الصراع واحتمال تأججه. السيناريو المثالي بالنسبة إلى ترامب، وليس إلى «حزب الحرب» المحيط به، هو خضوع إيران لشروطه عبر تكثيف الضغوط السياسية والاقتصادية عليها، والتهويل باحتمال الحرب، من دون الاضطرار إلى اللجوء إليها. هو بالتأكيد يفضّل استسلامها من دون قتال. لكن، وفي غياب أي علامة ضعف من قِبَلها تشي بالاستعداد لقبول شروطه، يستمر الرئيس الأميركي وفريقه في الإعداد للمواجهة.
وجود قنوات للتواصل والتوسط والتفاوض لا يلغي الصراع واحتمال تأججه (أ ف ب )

تعليقاً على المستجدات التي طرأت على الأزمة الأميركية ــــ الإيرانية، قال محمد جواد ظريف، يوم الخميس الماضي، إننا «نعيش في سياق شديد الخطورة. لقد دفعت الولايات المتحدة بنفسها وببقية العالم إلى شفير الهاوية على أغلب الظن». الوزير الإيراني يتجنب عادة المبالغات واللهجة التصعيدية في تصريحاته ومقابلاته، ويختار كلماته ومصطلحاته بدقة وحذر. هو قام بدور مهم في المفاوضات التي أفضت إلى الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة 1 + 5 على قاعدة الرهان على أن الاتفاق سيكون بمثابة فك اشتباك استراتيجي بين بلاده والغرب. المكاسب الكبرى التي كان من المفترض أن تجنيها إيران من مثل هذا الاتفاق على المستوى الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي، نظراً إلى موقعها الجيوسياسي الاستثنائي، ولكونها باتت قوة إقليمية متوسطة ذات نفوذ واسع في أنحاء مختلفة من جوارها القريب والبعيد، عززت آماله وقطاعاً عظيماً من الإيرانيين، بأن يشكل بداية مرحلة جديدة في تاريخ بلادهم. لكن مجمل ما تلا التوقيع على الاتفاق، وخاصة بعد وصول فريق ترامب إلى السلطة، بدّد هذه الآمال تماماً. المشهد اليوم هو كالآتي: الولايات المتحدة شرعت في حرب حقيقية ضد إيران عبر حصارها وخنقها اقتصادياً، والتموضع عسكرياً في محيطها، من دون الانتقال حتى اللحظة إلى العمليات العسكرية ضدها. الأوروبيون، بعد الإعلان عن معارضتهم للانسحاب الأميركي من الاتفاق وعن تمسكهم به، يعجزون عن ثني بعض شركاتهم عن الهروب، بالمعنى الحرفي، من إيران، وبعضها الآخر عن عدم التعامل معها بأي شكل من الأشكال. ومع تزايد التوتر في الخليج، تقدموا بمقترحات لـ«التوسط» بين الأميركيين والإيرانيين، كانت في الواقع نقلاً للشروط الأميركية، مخففة شيئاً ما، لطهران. هذا ما يفسر مثلاً فشل زيارة وزير الخارجية الألماني، هايكو ماس. تُعقد اليوم الآمال على الوساطة التي تقوم بها الدبلوماسية الفرنسية التي أوفدت إيمانويل بون، كبير المستشارين الدبلوماسيين للرئيس الفرنسي، إلى طهران، والذي حمل مبادرة «جديدة»، «لم يرفضها الإيرانيون ولم يقبلوها»، بحسب مصادر من قصر الإليزيه تحدثت لصحيفة «لو فيغارو». لكن الدبلوماسي الإيراني السابق، سيد هادي أفقهي، وصف في مقابلة مع «الجزيرة» المبادرة بأنها «أميركية أكثر منها فرنسية»، وكشف أن «إيران رفضت ثلاث مرات استقبال ماكرون بسبب عزمه إثارة موضوع الصواريخ الباليستية وسياسة إيران الإقليمية وبيع النفط».
تلجأ الولايات المتحدة إلى تأزيم مقصود حول البرنامج النووي الإيراني


تلجأ الولايات المتحدة إلى تأزيم مقصود حول البرنامج النووي الإيراني، على رغم علمها بأن إيران تحترم التزاماتها التي نص عليها الاتفاق، باعتراف جميع الأطراف المشاركة في هذا الأخير، من أجل تحقيق هدف آخر لا علاقة له بهذا البرنامج، وهو الحدّ من تطوير البرنامج الباليستي الإيراني. فسلاح الردع الفعلي الذي تمتلكه إيران وتعمل على تطويره كماً ونوعاً وعلى نقله إلى حلفائها هو سلاح الصواريخ، وليس أي سلاح آخر. محور المواجهة الحالية هو هذا المشروع، وما يتم في إطاره من تطوير لقدرات محور المقاومة في مواجهة إسرائيل. البرنامج النووي وما يثار حوله ذريعة للوصول إلى البرنامج الباليستي. وعلى رغم خوفها من الحرب، ومن نتائجها الكارثية على مصالحها، لا تزال الأطراف الأوروبية تتواطأ مع الأهداف الأميركية والإسرائيلية على التصعيد الراهن ضد إيران، مع علمها بأن الأخيرة لن تتراجع عما تعتبره قوة الردع الرئيسة التي بحوزتها. هي قد تبدي استعداداً لمرونة أكبر بالنسبة إلى المشروع النووي بحسب مراقبين يعتقدون أن من المحتمل أن توافق على تمديد مشروط للرقابة عليه، لكنها غير مستعدة لتنازلات فعلية بالنسبة إلى البرنامج الباليستي. على ضوء هذه الوقائع، تكتسب تصريحات المسؤولين الأميركيين عن عدم الرغبة في الحرب معنى آخر. هي موجّهة أساساً للداخل الأميركي الذي يعارض في غالبيته مغامرة عسكرية كبرى جديدة. الغاية هي الظهور بمظهر من يفسح المجال للدبلوماسية والوساطات، ومن ثم تحميل المسؤولية للطرف الإيراني عن إفشالها. نقطة أخرى ينبغي الالتفات إليها، وهي المسعى الأميركي لبناء تحالف من أجل ضمان «حرية الملاحة» في الخليج. فقد يكون افتعال الاشتباك مع إيران غداً، وتوريط أطراف أخرى فيه، يستند إلى تهديدها المفترض لهذه الحرية، وليس إلى ذرائع أخرى كما فعلت الولايات المتحدة مع العراق عندما اتهمته بداية بامتلاك أسلحة دمار شامل، ومن ثم عادت وأدرجت حربها عليه في إطار مشروع لدمقرطة الشرق الأوسط. لا نزال جميعاً على شفير الهاوية.