لم يقرأ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، تنفيذ إيران قرار رفع نسبة تخصيب اليورانيوم، على أنه دون مستوى الخطوات الدراماتيكية التي كانت تخشاها تل أبيب، بل من زاوية أن الجمهورية الإسلامية لم تكتف بهذا المستوى إلا بعدما تلقت وعوداً من الدول الأوروبية بتنشيط مساعيها لتحقيق ما يلبي مطالب طهران الاقتصادية. وعودٌ لم تدفع إيران إلى تجميد تنفيذ قرارها، بل إلى بلورة موقف يجمع بين الحزم في توجيه الرسائل، والمناورة التي تبقي الخيارات مفتوحة. إصرار إيران على خرق السقف الذي فرضه الاتفاق النووي، بموازاة التأكيد على مواصلة هذا المسار في حال لم يتم التوصل إلى اتفاق يلبي مصالحها، رأى فيه نتنياهو «خطوة خطيرة جداً جداً» تستوجب من زعماء أوروبا تنفيذ ما سبق أن تعهدوا به من فرض عقوبات على إيران، التي يبدو أن نتنياهو يريد انتهاج الخيار الوقائي حيالها. وانطلاقاً من ذلك، خطَّأ من اعتبر الخطوة الإيرانية صغيرة، ناظراً إليها كمحطة في سياق رد متدرج ومدروس بدقة، وعليه فالحكم عليها يرتبط بمآلاتها المستقبلية. وفي هذا الإطار، ذكّر بأن الحرب العالمية الثانية بدأت بخطوة واحدة صغيرة أقدمت عليها ألمانيا، وعندها لم يقل أحد شيئاً، ولم يفعل أحد شيئاً.صحيح أن الموقف الذي أطلقه نتنياهو متوقع، وهو امتداد لسياسته التقليدية في مواجهة البرنامج النووي، كما أنه ينبع من رفض إسرائيل المطلق لأصل امتلاك إيران الحق والقدرة على تخصيب اليورانيوم على أراضيها، إلا أنه ينطلق من رؤية أوسع لخطوة إيران الأخيرة، والتي حملت أكثر من رسالة. فهي أثبتت فشل محاولات ردع إيران، الأمر الذي لم يكن مرجحاً في تل أبيب وواشنطن، بفعل المبالغة في الرهان على فعالية العقوبات الاقتصادية، ورسائل التهويل التي اعتمدها الرئيس الأميركي دونالد ترامب. التقدير الذي كان يُروِّج له نتنياهو، منذ أيام الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، هو أنه في حال لمست إيران أنها ستتعرض لهجوم أميركي رداً على أي خطوة مضادة من قِبَلها، تتصل ببرنامجها النووي أو ملفات أخرى، فإنها سترتدع. وفي هذا السياق، دائماً ما ردّد نتنياهو أن مشكلة واشنطن وتل أبيب أن طهران لا تصدق تهديداتهما، فيما المطلوب المبادرة إلى خطوات فعلية تثبت جدية التهديدات.
المؤشر الأكثر إقلاقاً بالنسبة إلى تل أبيب، وإن كانت تتجنّب الحديث عنه تفادياً لاستفزاز ترامب، هو أن تخفيض إيران التزاماتها النووية أتى بموازاة تعزيز قوة ردعها في مواجهة الحشد الأميركي، على خلاف ما كانت تأمله إسرائيل. معادلة ظهّرها بوضوح حادث إسقاط الطائرة الأميركية، والذي عكس ثقة إيرانية بالقدرة على خوض المواجهة، وهو ما حضر بقوة لدى مؤسسة القرار في واشنطن، وأدى إلى التراجع عن الرد حتى الموضعي والمحدود، انطلاقاً من أن ذلك سيؤدي إلى التدحرج نحو مواجهة لا تريدها الولايات المتحدة، الأمر الذي شكل نذير شؤم لتل أبيب.
كشف الرد المتدرج الذي تنتهجه إيران، في مواجهة الحرب الاقتصادية عليها، عن مكامن خلل جوهري في أصل المقاربة الإسرائيلية والأميركية للواقع الإيراني.
رأى نتنياهو في تسريع التخصيب «خطوة خطيرة جداً جداً»

تنطلق هذه المقاربة من أنه في حال وجد النظام نفسه بين خيارَي التنازل وتهديد وجوده، فمن الطبيعي أن يختار الأول. ويُستشهد في هذا السياق بقرار وقف الحرب مع العراق في العام 1988، وتعليق البرنامج النووي الإيراني مع بداية الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003. لكن خطأ الأميركيين والإسرائيليين يكمن في عدم إدراكهم حجم التطور الذي شهدته إيران في العقود الثلاثة الأخيرة، على المستويات كافة، فضلاً عن تجديدها برنامجها النووي والاندفاع به أشواطاً خلال فترة الرئيس أحمدي نجاد. يضاف إلى ذلك أن إيران تعي أن الولايات المتحدة تطمع في استعادة هيمنتها عليها، على خلفية ما تمتلكه من ثروات هائلة، ولموقعها الجيوسياسي، الأمر الذي يضفي على الصراع معها أبعاداً دولية أيضاً. وفي ضوء هذه الرؤية، تشهد الجمهورية الإسلامية، بالرغم من المصاعب الاقتصادية التي تواجهها، التفافاً شعبياً واسعاً حول خيارات النظام في الدفاع عن نفسه.
خطورة المشهد، من منظور إسرائيلي، أن المسار الذي بدأته إيران بالأمس سوف يتواصل ما دامت الولايات المتحدة مصرّة على العقوبات، ومنكفئة عن المواجهة العسكرية المباشرة، إلى حين تحقيق إحدى النتائج التالية: إما التزام أوروبا بموجبات الاتفاق النووي، أو عودة البرنامج النووي إلى ما كان عليه قبل الاتفاق، وربما أكثر... أو الجلوس إلى طاولة المفاوضات من موقع قوة. وفي كل هذه السيناريوات لا يوجد ما يلبي الطموح الإسرائيلي، باستثناء أن تنخرط الولايات المتحدة في مواجهة عسكرية واسعة مع إيران، أو أن تفرض عليها عقوبات دولية شاملة. لكن مشكلة تل أبيب في السيناريو العسكري أنها ستدفع أثماناً هائلة، فيما لا توجد إلى الآن أي مؤشرات على إمكانية تحقيق السيناريو الثاني. ولذا، لا يتوقع أن تقف تل أبيب مكتوفة الأيدي أمام المساعي الأوروبية في المرحلة المقبلة، بل ينتظر أن تبدأ حملة سياسية ودبلوماسية مضادة بهدف قطع الطريق على اتفاق لا يبدو حتى الآن أنه مرجّح، لكنه لو حصل فسيصيب تل أبيب بخيبة لا تقلّ عن خيبة صمود إيران وانكفاء الولايات المتحدة عن مواجهتها.