«إسرائيل منزل محميّ بجدران قوية من الخارج، بينما يأكله النمل الأبيض من الداخل». هذا هو التشبيه الذي اختاره رئيس «سلسلة مؤتمرات هرتسليا»، اللواء عاموس غلعاد، لوصف أوضاع إسرائيل وحصانتها إزاء التهديدات الخارجية والداخلية. كلامه جاء في مقابلة تمهيدية لمؤتمر هذا العام، الذي بدأ أعماله الأحد الماضي، وأنهاها أمس الثلاثاء. وإذ يعبّر توصيف غلعاد عن تفاؤل إزاء قدرة إسرائيل على مواجهة التهديدات الخارجية قياساً بجاهزيتها لتلك الداخلية، فإن أهميته تكمن في أنه يصدر عن شخصية أمنية إسرائيلية ترأست الشعبة الأمنية السياسية في وزارة الأمن طوال 14 عاماً، فضلاً عن موقعه الحالي رئيساً لأهمّ المنصّات المعبّرة عن السياسات والاستراتيجيات الإسرائيلية.مؤتمر هرتسليا لعام 2019 كان مشبعاً بالكلمات والمداخلات والورش والندوات الجانبية، بمشاركة عدد من المسؤولين الإسرائيليين الحاليين والسابقين في المؤسستين السياسية والأمنية، إضافة إلى رؤساء الأحزاب وخبراء وأكاديميين في مختلف المجالات، من الأمن والعلاقات الخارجية إلى الاقتصاد والتربية والقطاع الصحي، بما أتاح البحث في ظاهرتَي الفساد والشخصنة في المؤسسة الحاكمة، وكذلك اتساع الهوّة والانقسام بين مكونات المجتمع الإسرائيلي. وعلى غرار السنوات الماضية، شاركت في المؤتمر شخصيات وازنة من خارج إسرائيل، كوزير الدفاع اليوناني بانوس كامينوس، ورئيسة «الحزب المسيحي الديمقراطي الألماني» أنيغريت كارن باور، والسفير المصري في تل أبيب خالد عزمي، والمبعوث الأميركي الخاص لشؤون سوريا جيمس حيفري، والدبلوماسي الأميركي السابق دنيس روس، ومساعد وزير الخارجية الأميركي دايفيد ساترفيلد، وآخرين من مسؤولين عسكريين وسياسيين سابقين وخبراء وباحثين في معاهد ومراكز بحثية في الولايات المتحدة وحول العالم. وفيما حضر من الجانب الإسرائيلي رؤوفين ريفلين، ووزير الخارجية يسرائيل كاتس، ورئيس الموساد يوسي كوهين، وعدد كبير من الخبراء والأكاديميين، بدا لافتاً هذا العام غياب رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، وشخصيات وازنة في المؤسستين العسكرية والأمنية، من مثل رئيس الأركان أفيف كوخافي، ورئيس شعبة الاستخبارات العسكرية تامير هايمن، على نقيض ما شهدته مؤتمرات السنوات السابقة.
ركّز المسؤولون الحاليون المقربون من نتنياهو على الإشادة بما سمّوه «النجاحات»


وفي ترجمة لما حذّر منه مدير المؤتمر من الشخصنة في الحياة السياسية، ركّز المسؤولون الحاليون المقربون من نتنياهو على الإشادة بما سمّوه «النجاحات» في التصدي للتهديدات الأمنية الخارجية، كما ورد في كلمتَي وزير الخارجية ورئيس الموساد، في ظلّ تجاهل لمظاهر الفشل، فيما ركّز المعارضون على الإخفاقات، وعرضوا بدائل من السياسات الحكومية الحالية، مثلما جاء في كلمات رئيس حزب «أزرق أبيض» بني غانتس، ورئيس حزب «إسرائيل بيتنا» أفيغدور ليبرمان، وغيرهما. إلا أن الأهم في المؤتمر كان المقابلات مع عدد من أهم الباحثين والمسؤولين العسكريين السابقين، إضافة إلى سلسلة ندوات جانبية (طاولات مستديرة) على هامش أعمال المؤتمر، ومن بينها ندوات بحثت في الأسئلة الآتية: إسرائيل كدولة ديمقراطية: هل هي النهاية؟ الوجود الروسي في الشرق الأوسط: روسيا عدو أم صديق؟ كيف تؤثر التغيرات التي تحدث في أوروبا على إسرائيل؟ هل من الممكن تغيير النظام في إيران قبل أن يحوز القنبلة النووية؟ أسئلة تضاف إليها إشكاليات من قبيل التحديات الإقليمية والدولية في منطقة الشرق الأوسط (النزاعات على الحدود)، التنافس الاستراتيجي في آسيا وآثاره على إسرائيل، وكيفية التعامل مع تنامي مكانة الصين الدولية، ومرونة التحالف الاستراتيجي بين إسرائيل والولايات المتحدة.
وقد كان من بين أبرز الندوات المشار إليها تلك المتصلة بالتهديد الذي ترى إسرائيل أنه مباشر ولصيق ومرتبط بمجمل التهديدات التي تشخّصها، والمقصود بها حزب الله. هنا، طرحت أسئلة كثيرة، مع إجابات أجمعت على أنّ زمن الانتصارات الإسرائيلية، ورفع الأعداء الأعلام البيضاء، بات من الماضي. في هذه الندوة تحديداً، التي جاءت تحت عنوان لافت هو: «هل تنتصر إسرائيل في الحرب المقبلة؟»، تحدث نائب رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق اللواء يائير غولان، وقائد سلاح الجو السابق أمير إيشل، ورئيس مجلس الأمن القومي السابق اللواء غيورا لأيلاند. ولئن تباينت قراءات المتحدثين، إلا أنهم اتفقوا على أن قواعد الاشتباك والمعادلات في الحروب المقبلة ستكون مغايرة لما سبق. صحيح أن بإمكان إسرائيل أن تُلحق أضراراً هائلة بلبنان إن وقعت الحرب، لكنها ستتلقى هي أيضاً أضراراً لن يتصورها الإسرائيليون، مع إصابات غير مسبوقة للجبهة الداخلية، بما يشير إلى أن نهاية الحرب ستكون تعادلاً استراتيجياً بين الجانبين، لا يمكن معه إسرائيلياً ادعاء الانتصار. وتُعَدّ هذه المطالعة إقراراً بمستوى ردع هو في حدّ أدنى متبادل، من شأنه تفسير امتناع إسرائيل عن استخدام الخيارات المتطرفة على الساحة اللبنانية، على رغم التهديدات المتكررة التي تصدر مباشرة عنها أو عبر الوسطاء.