«حلبة صراعات». هذه هي الحال التي وصلت إليها قمة الاقتصادات الكُبرى. بعدما كانت تعتبر مجلساً لإدارة العولمة، تُعقد قمة «مجموعة العشرين» هذا العام وسط توتّر استراتيجي يرتبط خصوصاً بنزاع واشنطن وبكين حول الهيمنة الاقتصادية والتكنولوجية، ومواجهة ثنائية تشمل أيضاً ملف إيران، حيث تدور أسخن الأزمات الدولية الراهنة. وسيحضر إلى طاولة القمة ملف التبادل الحرّ، إلى جانب التغيّر المناخي، وهذان خطان أحمران بالنسبة إلى الرئيس الأميركي، ما سيصعّب صياغة بيان ختامي يرضي جميع الأطراف.صباح غدٍ، يستأنف الرئيسان الأميركي دونالد ترامب، والصيني شي جين بينغ، المفاوضات بين بلديهما، لكَون المواجهة بين العملاقين الاقتصاديين، التي عمّقتها عقوبات أميركية ضدّ منتجين صينيين كبار على غرار شركة «هواوي» للاتصالات، تنذر بتداعيات لا بدّ من أن تطاول اقتصادات العالم أجمع. وفيما ستطبع مجمل اللقاءات الثنائية التي سيجريها ترامب، وعددها تسعة، أجواء هذه القمة، صعّد الرئيس الأميركي في وجه حلفائه قبل خصومه، مُوجِّهاً انتقادات حادّة إلى اليابان وألمانيا والهند.
وملمّحاً إلى احتمال التوصل إلى اتفاق بين البلدين، هوّل ترامب في مقابلة مع شبكة «فوكس بِزنس»، أول من أمس، قائلاً إن «اقتصاد الصين ينهار، يريدون التوصل إلى اتفاق»، علماً بأن الإحصاءات تشير إلى خلاف لذلك. وأضاف: «من الممكن قطعاً أن نتوصل إلى اتفاق جيد... لكنني أيضاً أشعر بسعادة كبيرة بشأن ما نحن عليه الآن». وفيما أشار إلى أن الصين تدرك جيداً ما تحتاجه الولايات المتحدة للمضيّ قدماً في أيّ اتفاق تجاري، حثّها على العودة إلى طاولة المفاوضات بالتنازلات نفسها التي قدمتها قبل انهيار المحادثات في أيار/ مايو الماضي.
وإذا كانت «وول ستريت جورنال» على حقّ، فإن شي سيحثّ ترامب على قبول مقترحات الصين لوقف الحرب التجارية واستئناف المحادثات. وبحسب الصحيفة الأميركية، وضعت بكين عدداً من الشروط لإنهاء الحرب: رفع شركة «هواوي» من القائمة السوداء، إلغاء جميع الرسوم الجمركية التي فرضت أخيراً على الواردات الصينية إلى أميركا، إسقاط الجهود التي تُجبر الصين على شراء المزيد من السلع الأميركية.
مطالب مهمّة للغاية بالنسبة إلى الصين، ليس واضحاً إن كان ترامب سيقبل بها، ما لم تقدّم بكين من جهتها تنازلات كبيرة في شأن التكنولوجيا، والوصول إلى اقتصادها. وعلى رغم شروطه المسبَقة، ليس متوقعاً أن يتّخذ شي وضعية المواجهة مع ترامب، وفقاً لمسؤولين صينيين تحدثوا إلى الصحيفة. لكنه بدلاً من ذلك، سيرسم خطاً واضحاً لما يمكن أن تكون عليه علاقة ثنائية مثالية، تشمل تقديم مساعدة صينية في القضايا الأمنية التي تثير قلق الولايات المتحدة، خصوصاً في ملفَّي إيران وكوريا الشمالية.
وهناك احتمال للتوصّل إلى «اتفاق مصغر» تتريث بموجبه الولايات المتحدة في فرض رسوم جمركية جديدة، وتقدّم ربما بعض التنازلات في شأن شركة «هواوي»، مقابل استئناف بكين شراء منتجات مزارعين أميركيين كبادرة حسن نية، وفق ديفيد دولار من مركز «بروكنغز» للدراسات.
وفي مطالعة قدّمها مستشار الأمن القومي الأسبق، توم دونيلون (2010 - 2013)، نُشرت قبل أيام في دورية «فورين بوليسي»، رأى الأخير أن إدارة ترامب تستخدم الأدوات الخاطئة للمواجهة، عبر تطبيق أساليب الحرب التجارية الفظّة التي تُذكّرنا بالقرن التاسع عشر، بدلاً من صياغة استراتيجية تحافظ على ريادة الولايات المتحدة اقتصادياً وتكنولوجياً. ورأى أن الحمائية التي يطبّقها الرئيس الأميركي لا يمكن أن تواجه التحدّي الصيني؛ إذ إن استعادة مكانة الولايات المتحدة في العالم وتنشيط اقتصادها يتطلبان استراتيجية طموحة لا تعتمد على تغيير السلوك الصيني، بقدر ما تعتمد على إعداد الولايات المتحدة للمنافسة.
تنعقد القمة وسط توتّر مرتبط بالنزاع على الهيمنة الاقتصادية والتكنولوجية


«التكنولوجيا الفائقة في الصين تهدّد التنافسية الاقتصادية الأميركية والأمن القومي»، هذا ما أشار إليه بوضوح، خصوصاً أن الصين تسعى إلى الحلول محلّ الولايات المتحدة كرائد عالمي في العديد من قطاعات التكنولوجيا المتقدّمة. لكن الرسوم الجمركية لطالما كانت خياراً سيئاً لتغيير سلوك بكين، لكونها تؤدّي في أفضل الأحوال إلى تشكيل سياسات صينية هامشية، ما سيتيح للشركات الأميركية وصولاً أكبر إلى الأسواق الصينية، ويقلّل العجز التجاري. ومع ذلك، تضرّ هذه الرسوم بالأعمال التجارية، والمزارعين، والمستهلكين الأميركيين، كذلك فإنها تؤدي إلى عزل حلفاء أميركا، وتزيد من خطر حدوث ركود عالمي.
مقترحاً حلاً أفضل، يعود دونيلون إلى التذكير بأن الردّ الأقوى على التحديات الاقتصادية والتكنولوجية الخارجية يتمثّل دائماً في الاستثمار الداخلي. في هذا السياق، يذكّر بأول قمر اصطناعي أطلقه الاتحاد السوفياتي عام 1957. حينها، ردّت الولايات المتحدة بتمرير «قانون تعليم الدفاع الوطني»، الذي حوّل جميع مستويات تعليم العلوم والرياضيات، وعزّز التمويل الفدرالي بشكل كبير للبحث والتطوير، ما أدى إلى إنشاء «ناسا» و«وكالة مشاريع البحوث المتطورة الدفاعية» (داربا). واليوم، فإن التقدم التكنولوجي في الصين ــــ وهو يعتبر تهديداً أكبر بكثير من الاتحاد السوفياتي ـــ يجب أن تنتج منه استجابة مماثلة؛ لأن العيب في استراتيجية الإدارة هو تركيزها على الصين وليس على الولايات المتحدة. فالقطعة المفقودة، يقول، هي التنشيط من الداخل. وبدلاً من فرض رسوم جمركية على البضائع الصينية، يجب على الولايات المتحدة أن تستثمر في العلوم والتكنولوجيا والتعليم والبنية التحتية، والتركيز على القيم الأساسية: تعزيز التحالفات الأميركية، وإصلاح نظام الهجرة لجلب أصحاب المشاريع والعمال المَهَرة.
ويخلص إلى القول إن سياسة الإدارة في الصين تعكس اعتقاد ترامب بأن بكين استفادت لفترة طويلة من واشنطن، خصوصاً في مجال التجارة. لكن الاستجابة التي تركّز على تغيير سلوك الصين ليست كافية على الإطلاق. «لم تولد الريادة الأميركية من الحمائية، ولكن من طريق بناء أكبر محرك اقتصادي في تاريخ البشرية... التفوق على الصين يتعلق بنا وليس بهم».