أيام قليلة تفصل عن بدء إيران بتنفيذ تهديداتها وهو ما قابلته أوروبا بالتهويل
فتحت الجمهورية الإسلامية، بذلك، الباب أمام الكثير من التحذيرات الصادرة عن الجانب الأوروبي، الذي وازى التصريحات بحراك سياسي سريع تجاهها وتجاه الولايات المتحدة. لكن تحركه لم يحجب حقيقة أن أوروبا باتت تواجه اختباراً لا تريده، يعتمد على مدى جاهزيتها للوقوف في وجه الحليف الأميركي، بينما أصبح من الواضح أن طهران تدفع باتجاه تغيير مسارها، من «الصبر الاستراتيجي» إلى «المواجهة الاستراتيجية المحدودة»، ما يقلّص الخيارات المتاحة أمام الدول الأوروبية، خصوصاً الثلاث منها المُوقّعة على الاتفاق. خلقت طهران واقعاً جديداً أمام هذه الدول كانت الأخيرة في غنى عنه. وعلى رغم أن الخطوة الإيرانية لا تؤثّر على الأوروبيين بشكل مباشر، إلا أن تبعاتها تتصل بمصالح الاتحاد الأمنية والسياسة والاقتصادية. يدور الحديث، هنا، عن أولوية أوروبية مرتبطة بشكل غير مباشر بالاتفاق النووي: الاستقرار الإقليمي في الشرق الأوسط وتأثيره على أمن القارة العجوز، فضلاً عن قضايا أخرى كثيرة، منها أن انهيار الاتفاق سيهدّد نظام «معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية»، خصوصاً في حال تابعت إيران خطواتها وقرّرت مغادرة المعاهدة.
أيام قليلة تفصل عن بدء إيران تنفيذ تهديداتها، وهو ما قابلته الدول الأوروبية بالتهويل الذي كان يمكن أن تستعيض عنه بخطوات عملية، من قبيل ضخّ المال في قنوات المعاملات المالية، وإعطاء الضمانات للشركات الأوروبية، فضلاً عن مواصلة استيراد النفط، من دون إغفال الدعم السياسي في مواجهة الضغط الأميركي. ولكن، عندما تعلّق الأمر بتحويل الأقوال إلى أفعال، بدت المقاربة الأوروبية خجولة جداً. الصيف الماضي، أعاد الاتحاد الأوروبي تمرير نظام منع للحظر، يستهدف تجنيب الشركات الأوروبية التعرّض للعقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة خارج حدودها. كذلك، وافق على تمويل متواضع لتشجيع الاستثمار في الاقتصاد الإيراني المتهالك، بينما أعلنت الدول الثلاث ـــ أي ألمانيا والمملكة المتحدة وفرنسا ـــ إنشاء آلية مالية (إنستكس) من أجل السماح بتجارة منتجات عديدة مع إيران. كان المأمول لدى إيران أن يثمر «صبرها الاستراتيجي»، ولكن الأمر لم يتجاوز أوروبياً حدود بيانات رمزية داعمة للاتفاق، في الوقت الذي ظلّ فيه تطوير السياسات، التي يمكن أن توفّر تخفيفاً للعقوبات، بطيئاً. أما القواعد التي قد تسمح للشركات بالسعي إلى الحصول على تعويض في محاكم الاتحاد الأوروبي عن الأضرار الناتجة من العقوبات، فلم تُنفّذ بعد. وبالمثل، بعد نصف عام تقريباً على تشغيل «إنستكس»، لم تتولَّ هذه الأخيرة معاملة واحدة، على رغم أنه كان بإمكان أوروبا استخدامها لمساعدة إيران في زيادة مبيعاتها من النفط الخام، أو حتى المشاركة في اتفاقيات منفصلة للنفط مقابل البضائع، يتم التفاوض عليها مع روسيا. كل هذه الخطوات تتطلّب تكتّلاً أكثر حزماً على استعداد لمواجهة أكبر شريك تجاري له، لكن الاتحاد الأوروبي بدا عاجزاً عن حشد التماسك اللازم لمواجهة أكبر حلفائه، فتلافى المواجهة معه، راضخاً لإعلان واشنطن سعيها إلى محادثات مع طهران، ما دفعه ربما إلى تأجيل إنشاء آليات للتبادل التجاري والنفطي، تجنّباً للاتهامات بإفساد جهد ترامب الدبلوماسي.
سابقاً، قاربت الدول الأوروبية وإدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما المسائل الإقليمية على أنها منفصلة عن الملف النووي، انطلاقاً من نظرية أنه عبر إزاحة البعد النووي عن الجغرافيا السياسية المشحونة في الشرق الأوسط، سينخفض عدد القضايا الواجب معالجتها. أكثر من ذلك، ارتأت أوروبا أن حل المسألة النووية سيفتح الطريق أمام حوار أوسع مع إيران. ولكن الرضوخ الأوروبي للسطوة الأميركية وضعها، أخيراً، في شباك ترامب، الذي يبتدع أساليب غير منطقية في إطار تعامله مع القضايا الدولية، متّبعاً مقاربة غير حكيمة تجاه إيران خصوصاً، عبر المطالبة بقيود جوهرية على برنامجها البالستي، الذي يعتبر دعامة في موقفها الردعي، في الوقت الذي لم تثمر فيه جهودها للتقيّد بالاتفاق النووي. هنا، يطرح سؤال مشروع عمّا قد يحفّز إيران على تلبية مطالب أخرى بتخفيض أصولها الأمنية، إذا كانت الاستجابة للمطالب الأولية قد جعلتها تحت الحصار الفعلي من قبل الولايات المتحدة، في موازاة تقاعس أوروبا عن القيام بأي دور إيجابي فعّال للحفاظ على مكاسب طهران الاقتصادية من الاتفاق النووي.