جوبا | تبدو جنوب السودان، الدولة الحديثة الولادة، في حالها اليوم، نموذجاً واضحاً لما قد تفضي إليه الرعاية الأميركية لتجارب الانفصال. فالدولة التي ترزح تحت أزمة اقتصادية، تعيش مضاعفات صراع سياسي وعسكري عزّزته الولايات المتحدة بنفسها طوال سنوات، ليصبح في النهاية سبب الخلافات المتصاعدة بين واشنطن وجوبا، بعد سنوات من الودّ الذي انقلب أخيراً إلى نوع من الابتزاز.شهدت علاقات جنوب السودان بالولايات المتحدة الأميركية تراجعاً كبيراً خلال السنوات الماضية، لا سيما إثر النزاع المسلح بين الحكومة والمعارضة عام 2013، إلى أن وصلت حدّ فرض عقوبات مباشرة على مسؤولين في الحكومة والجيش، بعد أعوام على الانفصال عن السودان في حزيران/ يونيو 2011، حين كانت واشنطن تمثل الداعم الرئيس لمتمردي «الحركة الشعبية لتحرير السودان» (الحزب الحاكم في جنوب السودان حالياً). دعم سياسي وعسكري أُدرج في إطار «مساندة المهمّشين» في جنوب السودان في مواجهة الأنظمة المتعاقبة منذ اندلعت الحرب الأهلية عام 1983، واستمرّ حتى توقيع اتفاق سلام بين الحكومة و«الحركة الشعبية» في كانون الثاني/ يناير عام 2005، عندما مارست واشنطن ضغوطاً مكثفة على الحكومة للقبول بالاتفاق الذي ينتهي بإقامة استفتاء يختار فيه شعب جنوب السودان ما بين الوحدة والانفصال. بذلك، لعبت الولايات المتحدة دوراً كبيراً في الدفع باتجاه الانفصال، وهي تُعدّ من أوائل الدول التي اعترفت بالدولة الجديدة رسمياً، وقدمت لها مساعدات مالية ضخمة تُقدر بـ11 مليار دولار لبناء بلد جديد بعد عقود من الحرب الأهلية التي قضت على الأخضر واليابس.
لكن بعد سنوات من الدعم المالي والسياسي، قلبت واشنطن ظهر المجن لحليفتها، بدعوى أن المبالغ التي تم تخصيصها للتنمية وبناء المؤسسات لم توظّف في المسار المطلوب. يدور الحديث، في هذا الإطار، عن فساد النخبة السياسية التي حوّلت تلك الأموال إلى حساباتها الخاصة في دول شرق أفريقيا، وتعاملت معها باعتبارها تعويضاً عن رهق سنوات الكفاح المسلح، بدلاً من إنفاقها على مشروعات التنمية والخدمات. بالنسبة إلى سفير واشنطن لدى جوبا، توماس هوشيك، فإن العلاقة تراجعت بسبب الفساد والصراع السياسي على السلطة، ما قاد إلى اندلاع «الحرب المفتعلة للتغطية على إخفاقات القادة السياسيين، وقصورهم في تحقيق التنمية والاستقرار». ويرى هوشيك، في تصريحات إلى «الأخبار»، أن «تحقيق الاستقرار في العلاقات يتطلب إعادة السلام، إلى جانب مكافحة الفساد، ومحاسبة جميع المتورطين في الانتهاكات المرتبطة بالحرب الأخيرة أمام المحكمة الهجين».
تطالب سلطات جنوب السودان الإدارة الأميركية الحالية بعدم التخلي عنها


دبلوماسياً، شهدت العلاقات تراجعاً ملحوظاً أيضاً في ظلّ إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، التي تتهمها جوبا بالسعي إلى «إسقاطها»، من خلال تبنّي سياسات تهدف إلى عزلها على المستويين الإقليمي والدولي، إضافة إلى عقوبات فردية فُرضت على بعض القادة العسكريين في الحكومة، وعدد من المسؤولين السياسيين الذين تتهمهم واشنطن بعرقلة جهود السلام. من هنا، تطالب جوبا الإدارة الأميركية الحالية بعدم التخلي عنها، والاستمرار في مساعدتها للخروج من الحرب والأزمة الاقتصادية، وهو ما يشدد عليه المتحدث باسم وزارة الخارجية، ماوين ماكول أرييك، في تصريحات إلى «الأخبار»، مشيراً إلى أن واشنطن لعبت «دوراً أساسياً في مساعدة شعب جنوب السودان لا يمكن تجاهله». ويناشد أرييك إدارة الرئيس دونالد ترامب «مراجعة مواقفها، والعدول عن سياسة فرض العقوبات ما دامت سلطات جنوب السودان تعمل على تنفيذ اتفاقية السلام» الموقّعة في أيلول/ سبتمبر 2018، مشدّداً على أهمية «استمرار الحوار بين جوبا وواشنطن لتجاوز العقبات الحالية، والعمل من أجل عودة الصداقة القديمة التي كانت تربط بين البلدين». لكن الولايات المتحدة كانت قد أبدت تحفظاً على اتفاق السلام نفسه، معتبرة أنه لن يقود إلى وقف الحرب، في ظلّ العداء الصارخ بين الرئيس سلفا كير ميارديت وزعيم المعارضة ريك مشار، الأمر الذي تتوقع واشنطن أن يقود إلى انهيار التسوية. وفي ضوء ذلك، تواصل تهديداتها بوقف المساعدات المُقدمة في شتى المجالات في حال استمرت الحكومة في ارتكاب الانتهاكات، وإعاقة إيصال المساعدات الإنسانية إلى المتضررين من الحرب. والجدير ذكره، هنا، أن الولايات المتحدة أسهمت في إنجاز عدد من المشروعات في البلاد، بينها تشييد الطريق الرابط بين العاصمة جوبا ودولة أوغندا، إلى جانب بناء عدد من المدارس والمرافق الصحية.
ويرى المحلل السياسي والكاتب في صحيفة «سودان بوست»، فرانسيس مييك، في حديث إلى «الأخبار»، أن «العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة تراجعت بسبب اندلاع الحرب الأهلية، نتيجة لخلافات الحركة الشعبية»، الحليف التاريخي لواشنطن، مُذكّراً بأن «الولايات المتحدة كانت قد لعبت دوراً رئيساً في تحقيق السلام في السودان في عهد الرئيس بوش الابن، واستمرت تلك العلاقة خلال عهد الرئيس أوباما، الذي ألقى خطاب الاعتراف بدولة جنوب السودان، والذي تعهد فيه بتقديم أشكال المساعدة كافة، التي تساعد القُطر الوليد على السير»، مضيفاً أنه على «رغم الآمال العريضة التي وضعتها واشنطن على جنوب السودان بعد نيله الاستقلال، إلا أن بعض المراكز القريبة من مراكز صنع القرار الأميركي كانت قد تنبّأت بفشل الدولة». ويعزو «تراجع العلاقات وتوترها إلى تناسي قادة الحركة الشعبية الدور الذي لعبته واشنطن» في الانفصال، وهو ما جعل الأخيرة «تشعر بالأسف من سلوك قادة الحركة، الذين باتوا يتهمونها بأنها تسعى لإطاحة الحكومة منذ اندلاع الحرب عام 2013». وهو اتهام سرعان ما تعود الحكومة إلى الاعتذار عنه، داعية إلى فتح صفحة جديدة، مثلما فعل الرئيس سلفا كير في أكثر من مناسبة.