إسطنبول | بعد يوم من تصريحات الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، الخميس الماضي، بأن «موضوع صواريخ أس 400 قد حسم والإجراءات مستمرة لتسلّمها في موعدها»، فوجئ الجميع بتصريحات سيرغي تشيمزوف، رئيس الشركة الروسية التي تقوم بتصنيع «أس 400»، إذ قال إن «عمليات تسليم منظومات الدفاع الجوي الصاروخية الروسية إلى تركيا ستبدأ خلال شهرين»، من دون أن يحدّد الموعد بدقّة. وأشار تشيمزوف إلى الانتهاء من تدريب الطواقم التركية المكلّفة بنصب وتشغيل «أس 400»، وقال: «لقد سدّد الجانب التركي الدفعة الأولى من قيمة الصواريخ، ونحن بدورنا انتهينا من تصنيع كل المعدات اللازمة للصواريخ». وجاءت أقوال تشيمزوف لتشير إلى أزمة جدية بين أنقرة وواشنطن في موضوع «أس 400»، حيث أبلغ وزير الدفاع الأميركي بالوكالة، باتريك شاناهان، نظيره التركي، خلوصي آكار، إلغاء برنامج التدريب للطيارين الأتراك الأربعة، وأنه سيطلب منهم ومن طواقم الصيانة وفيها 42 من العساكر الأتراك، مغادرة القاعدة نهاية تموز/ يوليو المقبل.قرار واشنطن يعدّ تحدّياً جدّياً سيواجه أنقرة التي ستشتري 100 طائرة «أف 35» بقيمة 9 مليارات دولار، على أن يلحق بذلك قرارها شراء صواريخ «باتريوت» الأميركية في حال الاتفاق على السعر. ثمّة عشرات من التصريحات التي أدلى بها إردوغان والمسؤولون الأتراك، خلال الأشهر القليلة الماضية، أكدوا فيها إصرارهم على شراء «أس 400». في مقابل ذلك، يبدو أن واشنطن لن تتراجع عن قرار الردّ على الموقف التركي في حال تسلّم أنقرة الصواريخ ونصبها في المناطق الجنوبية القريبة من سوريا، فهذا يعني أنها ستكون قريبة من إسرائيل، وبالتالي قبرص التي تشهد علاقاتها مع أنقرة توتّراً جدّياً بسبب عمليات التنقيب التي تقوم بها السفن التركية في المياه الإقليمية لجمهورية قبرص، التي لا تعترف بها تركيا، فيما تسيطر الأخيرة على الشطر الشمالي من الجزيرة المسمّاة جمهورية شمال قبرص التركية. وكان إردوغان قد هدّد القبارصة اليونانيين، وقال عنهم إنهم «يوقّعون على اتفاقيات مع شركات أميركية وهو ما لا تعترف به تركيا أبداً». وأصدرت وزارة الخارجية التركية، بدورها، بياناً هدّدت فيه بالتدخل لحماية حقوق القبارصة الأتراك، الذين يبدو أنهم سيتحوّلون إلى ورقة جديدة في المساومات، بل وربما الصفقات المحتملة حتى نهاية تموز/ يوليو، وهو موعد طرد الطيارين الأتراك من الولايات المتحدة، أي قبل أو بعد أيام من وصول صواريخ «أس 400» الروسية إلى تركيا، بحسب كلام تشيمزوف.
وجاءت أقوال مساعد وكيل الخارجية الأميركي، ماثيو بالمر، أمس، لتعكس مدى جدّية التهديدات التركية في موضوع قبرص، إذ ناشد تركيا «وقف عمليات التنقيب قرب قبرص»، وقال إن «قبرص حليف استراتيجي لأميركا التي تولي شرق الأبيض المتوسّط أهمّية كبيرة، ولأميركا 10 سفن حربية و130 طائرة مقاتلة في المنطقة». في الوقت ذاته، يعرف الجميع أن لبريطانيا قاعدتين في الجزيرة التي طوّرت أخيراً علاقاتها العسكرية مع إسرائيل، الجهة الوحيدة التي تملك طائرات «أف 35» التي تستطيع «أس 400» إسقاطها.
ومع استمرار الرهان على المساومات التركية مع واشنطن وموسكو، حيث سيشارك إردوغان في 28 الشهر الجاري في قمّة «العشرين» في اليابان، يدرك الجميع أنه ليس سهلاً على أنقرة أن توتّر علاقاتها مع واشنطن باستمرار، طالما أنها تدعم «وحدات الحماية الكردية» في سوريا، وتطوّر علاقاتها مع السعودية والإمارات ومصر، أعداء إردوغان الذي يهدّده الأميركيون بإعلان «الإخوان» تنظيماً إرهابياً، كما يهدّدون تركيا في موضوع إيران التي تستمرّ أنقرة في علاقاتها معها رغم قرارات المقاطعة الأميركية. يأتي ذلك في الوقت الذي بدأ فيه كثيرون في الولايات المتحدة الحديث عن توتّر محتمل بين واشنطن وأنقرة، بعد انتخابات 23 حزيران/ يونيو المحلّية في إسطنبول، وخصوصاً إذا خسرها إردوغان مع استمرار الأزمة المالية الخطيرة التي لا يمكنه أن يعالجها إلا بالدعم الأميركي، إن كان عبر صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي أو المؤسسات المالية الأميركية والعالمية التي تنتظر إشارة الرئيس دونالد ترامب، الذي يبدو واضحاً أنه يملك العديد من الأوراق في حربه النفسية ضد الرئيس التركي. فقد اضطر الأخير في 12 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، بعد اتصال هاتفي من ترامب، إلى إخلاء سبيل القس الأميركي أندرو برونسون، الذي كان معتقلاً منذ تموز/ يوليو 2016 بتهمة التجسس والإرهاب (المقصود به العلاقة مع الداعية فتح الله غولن). وكان ترامب، في تغريدته على «تويتر»، قد هدّد بفرض عقوبات اقتصادية كبيرة ضدّ تركيا في حال رفضها إخلاء سبيل برونسون، علماً بأنه سبق لإردوغان أن قال إنه سيبقى في السجن طالما هو في السلطة. وشهدت علاقات ترامب مع إردوغان حالة مماثلة في 29 أيار/ مايو الماضي، عندما أُخلي سبيل المواطن الأميركي التركي ساركان كولكا، الذي كان في السجن بتهمة العلاقة بفتح الله غولن، وهي من أخطر التهم التي يتعرّض لها أي شخص في تركيا.
ويبقى الرهان على عامل الزمن بالنسبة إلى كل الأطراف، وخصوصاً الرئيسين ترامب وإردوغان، لأن الجميع يرى أن المنطقة خلال الشهرين المقبلين ــــ أي حتى نهاية تموز/ يوليو ــــ ستشهد تطوّرات مثيرة بانعكاساتها على العلاقات التركية ــــ الأميركية، التي ستواجه الامتحان الأخطر في تاريخها، ما سيضع الطرفين وجهاً لوجه أمام قرارات حاسمة ستحدّد مصير هذه العلاقات ومستقبلها أولاً، وتالياً مصير إردوغان ومستقبله، الذي يعرف الجميع أن بقاءه في السلطة لن يكون سهلاً أبداً في حال الغضب الأميركي، الذي طالما أطاح زعماء سابقين بمن فيهم رئيس الوزراء الأسبق عدنان مندرس (أطاحه العسكر، على الرغم من أنه خلال حكمه لتركيا، للفترة بين عامي 1950 و1960، خدم كل المشاريع الأميركية، تركياً وإقليماً، ولم يفعل الأميركيون أي شيء لمنع العسكر من إعدامه).
كل ذلك من دون أن يهمل البعض الحديث عن سيناريوات أخرى تحدّد مسار تركيا ومصيرها ومستقبلها بعيداً من الفلك الأميركي، بالتنسيق والتعاون مع العدو التقليدي والتاريخي قيصرياً وسوفياتياً وشيوعياً: موسكو، بعدما أثبتت السنوات الأخيرة إمكانيات مثل هذا الاحتمال لما للعلاقات التركية ــــ الروسية من أبعاد تكتيكية واستراتيجية مهمّة جدّاً في جميع المجالات السياسية والأمنية والاقتصادية والعسكرية. فتركيا تستورد 60 ٪ من احتياجاتها من الغاز من روسيا، التي ترسل سنوياً 6 ملايين من مواطنيها للسياحة في تركيا، حيث تبني روسيا مفاعلاً نووياً بقيمة 24 مليار دولار. نصب صواريخ «أس 400» في تركيا سيكون إثباتاً عملياً لمتانة العلاقات المذكورة وقوّتها، وإلا فإنها ستواجه مشكلات جدّية، أولاها في إدلب ثم غرب الفرات فسوريا عموماً، كما جرى بعد إسقاط الأتراك الطائرة الروسية في تشرين الثاني/ نوفمبر 2015.