مع مرور سبعين عاماً على العلاقات الصينية ــــ الروسية، تفتح موسكو وبكين «حقبة جديدة» عنوانها تعزيز الشراكة الاستراتيجية، التي كان نموّها بطيئاً نوعاً ما إلى ما قبل سنوات قليلة. شراكة يغذّيها من ناحية تدهور علاقات روسيا مع الغرب، ومن ناحية أخرى الحرب التجارية الشرسة التي تشنّها الولايات المتحدة ضد الصين. هذا ما بدا بوضوح في القمة التي جمعت رئيسَي البلدين أول من أمس، والتي أضفت عليها «الحميمية» بينهما طابعاً خاصاً.في زيارة دولة تستمر ثلاثة أيام، وتتخلّلها مشاركته في منتدى «سان بطرسبورغ الاقتصادي الدولي» الذي يقام حالياً في روسيا، بدأ الرئيس الصيني، شين جين بينغ، أول من أمس، زيارة إلى موسكو، أجرى خلالها مباحثات مع نظيره الروسي، فلاديمير بوتين. ومع أن الزيارة تبدو مألوفة في ظلّ اصطفاف كلّ من روسيا والصين في الخندق نفسه، إلا أنها حملت هذه المرة طابعاً من الخصوصية وَسَمتها به حميمية رئيسَي البلدين، اللذين بدوا وكأنهما تخطّيا الأعراف الدبلوماسية، ليعكسا بمظاهر صداقتهما واقع شراكة استراتيجية كانت الإدارة الأميركية الحالية سبباً رئيساً في تغذيتها وتسريع تطوّرها. هذه الصداقة تجلّت بوضوح في وصف شي لبوتين بـ«الصديق المقرّب»، وفي ردّ الأخير عليه بالقول: «في السنوات الأخيرة، وبفضل مشاركتكم المباشرة، وصلت العلاقات بين روسيا والصين، ومن دون مبالغة، إلى مستوى غير مسبوق»، وتعبيره عن يقينه بأن «هذه الزيارة ستعطي دفعاً إضافياً قوياً لتنمية الروابط الثنائية».
في ختام المباحثات، أعلن الجانبان أن العلاقة الصينية ــــ الروسية، وبعد مرور سبعة عقود على نشوئها، «تدخل حقبة جديدة»، ووقّعا على إعلان مشترك حول «تعزيز العلاقات الثنائية والشراكة الشاملة والتعاون الاستراتيجي»، بما يشمل قائمة طويلة من المعاهدات والاتفاقيات. وعلى الستوى السياسي، بدا لافتاً التشديد على تطابق الرؤى بين الدولتين، العضوين الدائمين في مجلس الأمن الدولي، واللذين غالباً ما يكون تصويتهما «متقارباً جداً أو متطابقاً كلياً» بتعبير بوتين. وكان مستشار الكرملين، يوري أوشاكوف، قال إن «مواقف روسيا والصين قريبة جداً، أو تتوافق تماماً حول معظم الملفات الدولية»، مثل البرنامج النووي الكوري الشمالي، والنزاع في سوريا، والأزمة الفنزويلية، وأيضاً الاتفاق النووي الإيراني.
ستؤسّس روسيا والصين صندوقاً مشتركاً جديداً مقيماً باليوان


كذلك، تتمثّل إحدى أهمّ نتائج الزيارة في أنها تؤسس لإطلاق صندوق مشترك جديد مقيم باليوان بين موسكو وبكين. وهو ما كان أعلنه رئيس صندوق الاستثمار المباشر الروسي، كيريل ديمترييف، قبل وصول شي إلى موسكو بيومين، حيث قال إن «صندوق الثروة السيادي الروسي يعتزم الإعلان عن صندوق مشترك جديد مقيم باليوان مع الصين هذا الأسبوع، سيقوم بالاستثمار في روسيا»، مضيفاً أن الإعلان الرسمي سيتم في منتدى بطرسبرغ. ومن شأن هذه الخطوة أن تعزز الجهود الدولية الحثيثة لكسر هيمنة الدولار الأميركي، والتخلّي عنه لمصلحة عملات أُخرى مِثل اليوان الصيني واليورو.
اللافت أيضاً، في ما أسفرت عنه الزيارة إلى الآن، توقيع شركة «هواوي» الصينية، التي تخوض الولايات المتحدة ضدها حرباً شرسة، اتفاقية مع شركة «MTS» الروسية لتطوير وإطلاق شبكات الجيل الخامس من الإنترنت «5G» في روسيا. وقد جرى توقيع الاتفاقية خلال حفل حضره الرئيسان وعدد من الشخصيات الروسية والصينية، عشية انطلاق فعاليات منتدى بطرسبورغ. وتحدثت وسائل إعلام روسية عن أن «الشركتين اتفقتا على تطوير وإطلاق الجيل الخامس من الإنترنت عبر شبكات MTS في روسيا ما بين عامي 2019 و2020، كما ستتعاون الشركتان في مجال التقنيات المتطورة، وتحديث شبكات LTE إلى مستوى 5G ـــ ready، لتكون قادرة على نقل البيانات بسرعة أكبر».
ولم تخلُ زيارة شي من لفتتات ظهّرت، إلى جانب طريقة المصافحة والابتسامات العريضة، عمق الصداقة مع بوتين. إذ قدم الأول للثاني دٌبَّي باندا كهدية لحديقة حيوان موسكو، في ما وصفه الرئيس الروسي بأنه «دلالة على عمق الثقة والاحترام بين البلدين». والجدير ذكره أن العلاقة بين البلدين تَقَوّت مع صعود الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إلى سدّة الرئاسة، وانتهاجه سياسة خارجية استفزازية ضد الحلفاء والأعداء على السواء. وفي ظلّ توتر علاقة موسكو بواشنطن، وتدهورها مع الغرب عموماً، ووسط الحرب التجارية التي تشنّها الولايات المتحدة ضدّ بكين، تجد روسيا والصين في تمتين شراكتهما حائط صدّ قوياً بوجه محاولات الإدارة الأميركية تطويع البلدين وإخضاعهما. والجدير ذكره، هنا، أن المبادلات التجارية بين موسكو وبكين ارتفعت في عام 2018 بنسبة 25%، لتصل إلى مستوى قياسي بقيمة 108 مليارات دولار، بحسب الكرملين. ويرى المحلل الروسي، ألكسندر غابوييف، أن روسيا تحاول «الابتعاد عن السوق الأوروبية في اتجاه السوق الصينية»، فيما باتت الصين «مستثمراً مهماً جداً» في الاقتصاد الروسي، ومانح قروض لروسيا، في وقت انسحب فيه لاعبون دوليون آخرون بسبب العقوبات.



روسيا مستعدة للتخلي عن اتفاقية «ستارت»
انطلقت في روسيا، أمس، فعاليات النسخة الـ23 من «منتدى سان بطرسبورغ الاقتصادي الدولي» لعام 2019، والذي يقام تحت شعار «تطوير أجندة التنمية المستقرة» بمشاركة 140 دولة. ويشارك الرئيس الصيني، شي جين بينغ، في المنتدى، سعياً منه للترويج لبيئة استثمارية آمنة في بلاده. ويُعدّ المنتدى، الذي يستمرّ ثلاثة أيام، حدثاً مهماً في عالم الاقتصاد، ويشهد سنوياً إبرام العديد من الاتفاقيات بين كبرى المؤسسات الاقتصادية والمالية العالمية.
وخلال افتتاحه أمس، أثنى الرئيس الروسي على مؤشرات الاقتصاد في بلاده، وما تشكله من «مناخ مناسب» للمستثمرين الأجانب، مشدداً على أن سياسة روسيا الاقتصادية ستوفر الظروف الملائمة لهم. وقال بوتين إنه بهدف تنويع الاقتصاد، وجعله أكثر ابتكاراً، «من الواضح أننا نعتمد قبل كل شيء على جذب الاستثمارات الوطنية والأجنبية». وفيما ظهر الرئيس الروسي «تصالحياً» في شأن ملفات دولية عدة خصوصاً مع الأوروبيين، ودعا إلى فتح صفحة جديدة في العلاقات الصعبة مع لندن، بقي حازماً في انتقاداته للولايات المتحدة، ملوّحاً بأن بلاده مستعدة للتخلي عن اتفاقية الحدّ من الأسلحة النووية والمعروفة باسم «ستارت»، والتي تنتهي مدتها في العام 2021.
(أ ف ب)