إسرائيل كانت إحدى أولى دول الغرب التي بدأت فيها التحولات البنيوية العميقة الجارية حالياً في الكثير من دوله الأخرى، والتي يشكل الانزياح الكبير نحو اليمين وأقصى اليمين في مشهدها السياسي ومجتمعاتها إحدى سماتها الرئيسة. قد تختلف الأسباب التي تفسر هذه التحولات في كيان استعماري استيطاني كإسرائيل، وتحديداً الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية، عن تلك التي أفضت إليها في مجتمعات الغرب. عادة ما يردّ المحللون صعود التيارات الفاشية والنيوفاشية في مجتمعات الغرب إلى الاختلالات الاجتماعية الكبرى الناجمة عن سياسات العولمة النيوليبرالية التي اعتمدتها حكوماتها المتعاقبة منذ عقود، وانعكاساتها السلبية على موقف قطاعات شعبية واسعة من النخب السياسية التقليدية و«أحزاب الحكم». هذه القطاعات منحت أصواتها وثقتها لممثلين جدد عنها، يزعمون الدفاع عن مصالحها الحقيقية في مواجهة مصالح النخب المعولمة التي لم تعد تعيرها أي اعتبار.أما اليمين واليمين المتطرف في إسرائيل فهما من أشدّ أنصار العولمة النيوليبرالية، ويعتبران نفسيهما رائدَي التغييرات الاقتصادية والاجتماعية التي أدت إلى المزيد من اندماج الكيان فيها، وتحوله إلى إحدى منصاتها العلمية والتكنولوجية. لكن المشترك بين جميع تيارات الفاشية البيضاء، التي قد تختلف أيضاً في مواقفها السياسية تجاه دول كروسيا والصين، هو في طبيعة أولوياتها الأيديولوجية والسياسية، وفي طليعتها الدفاع عن الهوية «الأصلية النقية» لبلدانها في مواجهة «الآخرين»، وفي تبنيها أطروحة صراع الحضارات، تحديداً حيال العرب والمسلمين. تضاف إلى ذلك طبعاً العلاقات العضوية، السياسية والمصلحية ـــ الشخصية، التي تجمع بعض أبرز قواها وقادتها، كفريق ترامب ونتنياهو وبولسونارو مثلاً. إسرائيل، قلعة الغرب المتقدمة على خطوط التماس مع «الآخرين»، كانت ساحة الاختبار لنمو الفاشية البيضاء، وهي تعتزم الإفادة القصوى منها لتسريع استيلائها على الأرض الفلسطينية والحصول على أكبر قدر من الدعم في مواجهة أعدائها.

الصعود المتناغم للفاشيات المعاصرة
مرّ المشهد السياسي الصهيوني بثلاث مراحل منذ تأسيس الكيان؛ المرحلة الأولى، الممتدة من 1948 إلى 1977، تميزت بالسيطرة الكاملة لحزب «العمل» على النظام السياسي. النخب التي أسّست هذا الحزب كانت أوروبية، وتتخذ من أحزاب ما سُمّي «الاشتراكية ـــ الديمقراطية»، وفيما بعد «الاجتماعية ـــ الديمقراطية» الأوروبية، مرجعية فكرية وسياسية. وللتذكير، فإن هذه الأحزاب، خاصة في فرنسا وبريطانيا، كانت مؤيدة للاستعمار، ورأت في إسرائيل نموذجاً في «الشرق البعيد» عن المجتمع «المثالي» الذي تعتزم بناءه. انتصار حزب «الليكود» اليميني في انتخابات عام 1977 كان فاتحة لمرحلة جديدة ستمتدّ حتى سنة 2001، ساد فيها تداول للسلطة بين «العمل» و«الليكود». من اللافت أن هذا الانتصار سبق بسنتين وصول رونالد ريغن وحزبه «الجمهوري» إلى موقع القرار في الولايات المتحدة، بعد سلسلة الهزائم التي منيت بها هذه الأخيرة في فيتنام وكمبوديا ونيكاراغوا وأنغولا وموزامبيق وايران، وللردّ عليها وعلى انعكاساتها على موقعها الدولي. كان للانتصارات المذكورة لحركات التحرر الوطني في بلدان الجنوب، وأثرها على بقية شعوبه، وقع أيديولوجي كبير على المجتمعين الأميركي والإسرائيلي، قاد قطاعات بأكملها إلى الالتفاف حول القيادات والأحزاب الداعية إلى اعتماد سياسة هجومية لمواجهة هذا التحدي. قدمت إسرائيل نفسها آنذاك، بقيادة بيغن وشارون، باعتبارها ذراعاً ضاربة للهجوم المضاد الذي عزم ريغان ووزير دفاعه ألكسندر هيغ، على شنّه للرد على الهزائم التي منيت بها. لكن الحقبة التي تلت سقوط الاتحاد السوفياتي، وما ترتب عليها من عمليات إعادة تموضع أيديولوجي وسياسي لطيف واسع من قوى اليمين العالمي، هي التي مهّدت للتطورات التي ستشهدها إسرائيل بداية، والعديد من دول الغرب لاحقاً.
عملت هذه القوى على إعادة تكييف عرضها السياسي مع السياق الدولي المستجد، بعد فقدانها العدو الشيوعي، وأعادت محورته حول فكرة مركزية، وهي الدفاع عن الهوية الأصلية للشعب وثقافته، في عالم باتت الصراعات فيه وجودية وغير قابلة للحل، لأنها صراعات بين حضارات ذات منظومات قيم متناقضة. عبّر صامويل هانتغتون، في كتابه «صراع الحضارات» والكتاب الذي تلاه «من نحن؟»، بوضوح، عن رؤى هذه القوى. وقد أشار جميل هلال ومنير فخر الدين وخالد فراج، محرّرو كتاب «فلسطين دولياً: صعود اليمين في العالم وإعادة رسم التحديات» الذي صدر أخيراً عن «مؤسسة الدراسات الفلسطينية»، إلى أن «المظلة الرئيسية التي تجتمع تحتها قوى اليمين المتطرف هي التعريف العرقي للمواطنة، الذي يعني أن «الدول هي حصراً للمجموعة الأصلية، وأن العناصر غير الأصلية من سكان وأفكار، مصادر تهديد للهوية القومية وتجانس الأمة». ولا شك في أن القوى الفاشية والنيوفاشية في الغرب تتمنى لو أن باستطاعتها فرض قانون شبيه بقانون الدولة القومية لليهود، المطابق للتعريف المذكور، والذي صوّت عليه الكنيست في تموز 2018، في بلدانها.
صعود اليمين واليمين المتطرف في إسرائيل كان ملازماً لانطلاق عملية السلام المزعومة، وارتبط بمعارضتهما لها، باعتبارها خيانة للمشروع الصهيوني الأصلي، وتهديداً قاتلاً بالنسبة إلى الكيان لشمولها إقامة دولة فلسطينية، حتى لو كانت معدلة الحدود ومنزوعة السلاح. أسهمت عوامل أخرى بنيوية وديمغرافية، كجلب مليون من اليهود الروس، هم في غالبيتهم من أنصار التطرف القومي، ونجاح «الليكود» في الاحتفاظ بقاعدته الانتخابية الصلبة، أي غالبية اليهود الشرقيين التي كان لها الفضل في إيصاله إلى السلطة عام 1977، ونمو تيار الصهيونية الدينية، في تعاظم شعبية اليمين واليمين المتطرف وفي سيطرتهما على المشهد السياسي. ومنذ شباط 2001، تاريخ وصول أرييل شارون إلى منصب رئاسة الوزراء، لم يُنتخب في إسرائيل سوى مرشحَين يمينيَين لهذا المنصب، فيما انهار اليسار الصهيوني المُمثل بحزب «العمل». نتنياهو وقادة اليمين الآخرون نجحوا في اجتذاب قسم من جمهور الحزب نتيجة «الإنجازات» التي حققوها في العقدين الماضيين، كتسريع الاستيطان والضمّ، وإضعاف المقاومة في الضفة، وبناء شراكات إسرائيلية جديدة مع أطراف دولية وعربية. لم تؤثر الاتهامات المُوجّهة إليه بالرشوة والاحتيال واستغلال الثقة، ولا تدهور الأوضاع الاقتصادية في السنوات الأخيرة، وتزايد الفوارق الاجتماعية والإفقار، في مواقف هذا القسم من الرأي العام، تماماً كما هو حال جمهور ترامب الذي لا يأبه للاتهامات الموجهة إليه. هذه الكتل الاجتماعية تعتقد أنها في خضمّ مواجهة وجودية وتنظر إلى الاتهامات الموجهة لقياداتها على أنها جزء من الحرب الإعلامية والنفسية التي يشنّها الأعداء.

صفقة القرن
لا تتردّد إسرائيل في المجاهرة بتحالفها مع التيارات الفاشية الصاعدة، بما فيها تلك التي كانت حتى زمن قريب تتبنّى خطاباً معادياً لليهود. هذه التيارات تعيد تشكيل المشهد السياسي في دول الغرب، وستكون لاعباً وازناً في داخله في المستقبل. قدمت لها إدارة ترامب ما لم تقدمه إدارة أميركية من قبل، وهو التخلي عن الثوابت الأميركية المعلنة لتسوية الصراع العربي ـــ الإسرائيلي، وتبنّي مقاربتها القائمة على الانطلاق من الأمر الواقع الذي خلقته على الأرض عبر الاستيطان والضمّ والتهويد، لفرض أرخبيل من المعازل على الفلسطينيين في أحسن الأحوال، واستكمال الاستيلاء على الأرض والموارد. وهي تراهن على أن يحذو حلفاؤها الجدد حذو الإدارة، وهو ما أكده الكثيرون بينهم. إسرائيل التي كانت «نموذجاً مجتمعياً» لأحزاب «الاشتراكية ـــ الديمقراطية» في دول أوروبية استعمارية هرمة، انتهت قلعة فاشية من قلاع الفاشيات البيضاء الصاعدة.