بعد شهرين من تهديد الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بالانسحاب من معاهدة «الأسلحة النووية متوسطة المدى» الموقّعة مع الاتحاد السوفياتي قبل ثلاثة عقود، وعلى رغم دعوات الاتحاد الأوروبي إلى «حماية» الاتفاقية، أقدمت واشنطن على خطوة تصعيدية في إطار الخروج من الاتفاقية. إذ أعلن وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، أمس، أن بلاده ستُعلق التزامها ابتداءً من الغد (اليوم)، معطياً موسكو مهلة ستة أشهر للتوقف عن «خرق» المعاهدة قبل انسحاب أميركي نهائي منها.وفي مؤتمر صحافي، قال بومبيو إنه «يجب أن يكون الأمن أهم أولوياتنا، والاتفاقات التي التزمنا بها ينبغي أن تخدم المصلحة الأميركية، والدول يجب أن تحاسَب إذا انتهكت القوانين»، مضيفاً: «(أننا) تحدثنا مع المسؤولين الروس على أعلى المستويات الحكومية أكثر من 30 مرة، لكن موسكو لا تزال تنفي خرقها للمعاهدة». ورأى المسؤول الأميركي أن «انتهاكات الروس تضع حياة الملايين من الأميركيين والأوروبيين في خطر وتقلل فرص التقارب السياسي». إلا أن بومبيو ترك الباب مفتوحاً أمام إجراء مفاوضات مع روسيا خلال مهلة 60 يوماً، من أجل التوصل إلى اتفاق جديد في شأن المعاهدة، إذ شدد على أن بلاده لا تزال تأمل في أن «تغيّر روسيا موقفها»، مبدياً استعداد واشنطن «للعمل مع روسيا في مفاوضات الحدّ من التسلّح».
وإثر إعلان بومبيو، أكد الرئيس الأميركي عزمه وضع «خيارات للرد العسكري» بالتعاون مع حلف «شمال الأطلسي» (الناتو) لمنع تفوّق روسيا عسكرياً، نتيجة «خرقها» للاتفاقية. وقال ترامب في بيان: «سنمضي قُدماً وسنضع خيارات خاصة بنا للرد العسكري، وسنعمل مع الناتو وحلفائنا وشركائنا الآخرين للتعويض عن أي ميزة عسكرية حصلت عليها روسيا نتيجة أفعالها غير القانونية». وعلى رغم تأكيده أن واشنطن ستبدأ اليوم إجراءات الانسحاب لتُكمل العملية خلال نصف سنة «إن لم تغير روسيا سلوكها»، فإن ترامب أعلن عن رغبته في «مناقشة اتفاقية جديدة للرقابة على الأسلحة».
موسكو: نحتفظ بحق الرد في حال انسحاب واشنطن نهائياً من المعاهدة


في المقابل، عبّر الكرملين عن أسفه للتحرك الأميركي، متهماً واشنطن بـ«عدم الإنصات أو التفاوض لتجنّب مثل هذه النتيجة». وقال الناطق باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، إن «عدم رغبة الأميركيين في الإنصات إلى أي ذرائع وإجراء مفاوضات موضوعية معنا، يبيّن أن واشنطن اتخذت قرار نقض المعاهدة منذ وقت طويل». كذلك، نددت وزارة الخارجية الروسية بقرار واشنطن، قائلة إنها جزء من «استراتيجية واشنطن للتنصل من التزاماتها الدولية». وقالت الناطقة باسم الوزارة، ماريا زاخاروفا، إن أميركا لم تقدم «أي دليل ولا صورة قمر اصطناعي ولا شهادة تثبت وجود انتهاك روسي»، مشددة على أن موسكو «لا تزال موافقة على إجراء حوار حول المعاهدة». وختمت زاخاروفا كلامها محذرة من أنه «إذا تخلت الولايات المتحدة بالفعل عن المعاهدة، فإن موسكو تحتفظ بحقها في الرد بالشكل المناسب».
يُذكر أن الولايات المتحدة كانت أعلنت، في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، أنها ستنسحب من المعاهدة في غضون شهرين إن لم تلتزم روسيا المزيد من الشفافية، وتُفكّك الصواريخ التي تعدّها واشنطن انتهاكاً للاتفاق، فيما ردّ الرئيس الروسي على الإعلان الأميركي حينها بالتهديد بتطوير مزيد من الصواريخ النووية المحظورة بموجب المعاهدة.
وتتالت المواقف الدولية فور الإعلان الأميركي، وأولها كان تأييداً «كاملاً» من «الأطلسي»، الذي تبنّى وجهة النظر الأميركية، مجدداً اتهامه لروسيا. وقال الحلف في بيان: «واشنطن تقوم بهذه الخطوة رداً على مخاطر كبيرة على الأمن الأوروبي الأطلسي، يشكلها قيام روسيا باختبارات سرية وبإنتاج ونشر منظومة إطلاق الصواريخ العابرة»، مضيفاً أن «الحلفاء يدعمون هذا العمل بالكامل».
لكن الأوروبيين أعربوا عن مخاوفهم من مخاطر انهيار المعاهدة. وما زاد من هذه المخاوف هو تحذير كبير المفاوضين من الجانب الروسي، نائب وزير الخارجية سيرغي ريابكوف، من أنه بعد انهيار المعاهدة، فإن معاهدة أخرى في شأن الأسلحة، وهي معاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية «ستارت»، يمكن أن تنهار. هذا الأمر دفع بوزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي، فيديريكا موغيريني، إلى التحذير، أثناء اجتماع وزراء خارجية الاتحاد في بوخارست، من «أن تعود قارتنا لتصبح أرض معركة أو مكاناً تواجه فيه القوى الكبرى بعضها»، فيما دعمت ليتوانيا ولاتفيا الانسحاب الأميركي. أما وزير خارجية بلجيكا، ديدييه رايندرز، فكان له موقفٌ مغاير، إذ اعتبر أن الانسحاب من المعاهدة «ليس هو الرد المناسب»، مؤكداً أن الانسحاب «لن يفلح في وضع المزيد من الضغوط» على موسكو. من جهته، لفت وزير خارجية المجر بيتر زيغارتو، إلى أنه «عندما يحدث نزاع بين الشرق والغرب، فإن الأوروبيين هم دائماً الخاسرون»، مضيفاً أنه «بالنسبة لنا في المجر، فلا أعتقد أننا يمكننا أن نؤثر كثيراً في هذه المسألة. كل ما يمكن أن نفعله أن نأمل في مزيد من التعاون البراغماتي بين الشرق والغرب». ألمانيا، من جهتها، رأت أنه «ينبغي على روسيا الالتزام ببنود المعاهدة، حتى يتسنى العمل بها». وقال وزير الخارجية الألمانية، هايكو ماس، الذي قام بزيارات عدة إلى موسكو وواشنطن في الأسابيع الماضية سعياً لإنقاذ المعاهدة، إن «روسيا لا تزال تنتهك المعاهدة».