في اليوم الثالث للأزمة التي فجّرها إعلان رئيس البرلمان الفنزويلي، خوان غوايدو، نفسه رئيساً بالوكالة الأربعاء الماضي، واعتراف واشنطن به، خرج الرئيس نيكولاس مادورو، أمس، في مؤتمر صحافي أسهب فيه في مناقشة التطورات. مادورو، الذي تتوجه إليه الأنظار في الداخل والخارج، وعلى رغم تمسكه بالاتهامات الحساسة حول خيانة غريمه غوايدو، وتوصيفه ما قام به بأنه انقلاب مدفوع من الولايات المتحدة، حرص على شرح الأزمة من الناحية القانونية، مستعرضاً مواد الدستور للمحاججة في عدم شرعية إعلان غوايدو، إلى جانب تمسكه بالحوار الوطني كسبيل لحل الأزمات تحت سقف احترام الدستور للحفاظ على الديموقراطية في البلاد. وشدد مادورو على استعداده للقاء غوايدو في أي وقت، على رغم غدر الأخير المتمثل في أنه تراجع عن تعهده عشية الانقلاب، عبر قنوات الحوار غير المباشر، بأنه لن يعلن نفسه رئيساً. لكن، على الفور، وفي خطوة من شأنها أن تترك باب الأزمة مفتوحاً على مصراعيه، ردّ زعيم المعارضة بالسلب على مبادرة الرئيس، إذ اعتبر أنه «عندما لا يحصلون على النتائج التي يريدونها من خلال القمع، فإنهم يعرضون بدلاً من ذلك إجراء حوار شكلي».
أعلن الرئيس الانقلابي أنه يستعد لإعلان «إجراءات جديدة»


وفي شق آخر، وجه الرئيس مادورو، المجدَّد له عبر الانتخابات لولاية ثانية تستمر حتى 2025، رسائل إلى الخارج، وتحديداً إلى الولايات المتحدة وإسبانيا والدول الأوروبية، مجدداً تمسكه باستقلال البلاد ورفض التدخلات الخارجية في شؤونها الداخلية. وهزئ من إعلان وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، تقديم مساعدة إنسانية للشعب الفنزويلي بقيمة 20 مليون دولار، متسائلاً: «هل هذا المبلغ الزهيد هو ثمن المعارضة؟»، واصفاً غوايدو بـ«المتسول». وقال مادورو: «لا ننتظر أي شيء جيد من الولايات المتحدة، فهم يسلبون الثروة من كل العالم، ولا يساعدون الفقراء، لديهم مئات الآلاف من الدولارات التي صرفت لقصف فييتنام وليبيا والعراق... هذه عقيدتهم العسكرية، إنها موجهة لصناعة الموت، إنهم لا يقدمون العون ونحن لسنا بحاجة إلى أحد، وسنقوم بتحسين أوضاعنا بأنفسنا». وتابع: «الولايات المتحدة تعتدي على كل الدول باسم السلام... يمكنهم نشر الخوف في أي مكان ولكن ليس هنا». وأضاف إن «بلادنا عظيمة ومقتدرة، ولن نسمح للعدو الإمبريالي بأن يدنّسها»، معلناً استعداد القوات الفنزويلية لصدّ أي اعتداء، ونيتها إجراء مناورات منتصف الشهر المقبل لرفع الجاهزية. وأوضح أن كراكاس ليست معادية للولايات المتحدة، إنما لـ«الإمبريالية» الأميركية، وأن قرار قطع العلاقات مع واشنطن لا يشمل العلاقات مع الشعب وفي الاقتصاد والطاقة، مؤكداً استمرار بيع النفط للولايات المتحدة. وقال في هذا الشأن: «سنواصل بيع كل ما نبيعه. إذا أرادوا شراء البطاطا منا، فنحن سنبيعهم، وشراء البصل، سنبيعهم… وإذا كانوا لا يريدون شراء النفط، فنحن سنبيع في مكان آخر». مادورو، الذي ختم خطابه بشكر الحلفاء والأصدقاء والمتضامنين، وعلى رغم رسائل الجاهزية عالية النبرة، أبدى استعداده للحوار، داعياً الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ونائبه مايك بنس، إلى التعقّل وحل الأزمة بين البلدين بالطرق السلمية.
على الجبهة المقابلة، أعلن الرئيس الانقلابي أنه يستعد لإعلان «إجراءات جديدة». وأضاف غوايدو، في حديث إعلامي من مخبئه السري في العاصمة، حيث يتوارى عن الأنظار، أنه مستمر «في العمل لإنهاء اغتصاب السلطة وإقامة حكومة انتقالية وانتخابات حرة»، داعياً المواطنين إلى الاستمرار في التظاهر ضد النظام. وذهب أكثر من ذلك عبر حديثه عن إمكانية إصدار «عفو» عن الرئيس مادورو! وحول الدور الأميركي في ما يجري في فنزويلا، نقلت صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية عن مسؤول أميركي وصفته بـ«رفيع المستوى» أن نائب الرئيس ترامب، مايك بنس، اتصل برئيس البرلمان الفنزويلي قبل يوم من إعلان نفسه رئيساً، وأعرب له عن «وقوف الولايات المتحدة إلى جانبه». وكشفت الصحيفة عن خطة جرى العمل عليها خلال الأسابيع الأخيرة بين عدد من المسؤولين الأميركيين وغوايدو وفريقه «وصلت ذروتها الأخيرة مع المكالمة الهاتفية».

حرص مادورو على شرح الأزمة من الناحية القانونية


وفي وقت بدأت فيه الولايات المتحدة سحب موظفيها من فنزويلا، وتشجيع المواطنين الأميركيين على المغادرة، من المنتظر أن يعقد مجلس الأمن الدولي، اليوم، جلسة مخصصة لمناقشة الأزمة، دعت إليها واشنطن، وسيشارك فيها وزير خارجية كاراكاس. وفي مؤشر على مواصلة التصعيد الأميركي، عين بومبيو مبعوثاً إلى فنزويلا هو إليوت أبرامز، وذلك بهدف «إعادة الديموقراطية» إلى هذا البلد على حدّ تعبيره. ورأى بومبيو أن «على الشعب الفنزويلي اتخاذ الخطوات اللازمة للتخلص من النظام الديكتاتوري»، معتبراً في الوقت نفسه أن «من مسؤوليتنا العمل على إعادة الديموقراطية إلى فنزويلا». وقالت الخارجية الأميركية إن بومبيو سيدلي في الجلسة بإفادة يحثّ فيها الدول الأعضاء على الاعتراف بشرعية غوايدو.
التحرك الأميركي استبقته روسيا بإعلان أنها ستعارض المشروع، إذ نقلت وكالة «رويترز» عن مندوب موسكو الدائم لدى الأمم المتحدة، فاسيلي نيبينزيا، قوله إن «هذا لن يمر، لن يتغير أي شيء بالنسبة إلينا». وتُعقد جلسة مجلس الأمن وسط استقطاب دولي حاد حول الأزمة الفنزويلية، تظهر فيه الولايات المتحدة في موقع الداعم للانقلاب، وإلى جانبها دول في مجموعة «ليما» وأخرى أوروبية، مقابل مواقف دولية رافضة لنزع الشرعية عن الرئيس المنتخب والتدخل الخارجي، في مقدمها الصين وروسيا. وفي هذا الإطار، جددت موسكو على لسان وزير خارجيتها سيرغي لافروف، استنكارها السياسة الأميركية «التدميرية» في فنزويلا. ورفض لافروف الانقلاب والتدخل الخارجي، مشيراً إلى أن بلاده ستعبّر عن موقفها في جلسة مجلس الأمن. من جهتها، أعادت الخارجية الصينية التأكيد على معارضة «التدخل الأجنبي في فنزويلا، وخاصة تهديدات التدخل العسكري». وحثت بكين جميع الأطراف على «احترام اختيار الشعب الفنزويلي»، مبدية دعمها لمساعي الحل السياسي «داخل إطار الدستور»، ولجهود كاراكاس في التمسك بالسيادة والاستقلال والاستقرار.



حرب الدستور والصورة
في ظلّ احتدام الصراع الداخلي في فنزويلا، يحاول كل طرف إظهار نفسه أمام الجمهور بأنه المتمسك بدستور البلاد والمنتسب إلى رموزها الوطنية. وقد حرص الرئيس الفنزويلي، نيكولاس مادورو، أمس، في مؤتمره الصحافي، حيث ظهر ومن ورائه صورة للزعيم التاريخي للبلاد سيمون بوليفار، على حمل نسخة من الدستور الفنزويلي الذي استشهد بنصوصه، مؤكداً التمسك به وبالديموقراطية. وكان زعيم المعارضة، رئيس «الجمعية الوطنية» (البرلمان) خوان غوايدو، قد ظهر في إعلانه نفسه رئيساً مؤقتاً بالوكالة، وهو يحمل نسخة صغيرة من الدستور طبع عليها صورة لوجه قائد حروب الاستقلال عن الاستعمار الإسباني، سيمون بوليفار. يذكر أن حركة الرئيس الراحل، هوغو تشافيز، حملت اسم «الثورة البوليفارية» نسبة إلى سيمون بوليفار ومبادئه. كما أن تشافيز عمد بعد فوزه الى تحويل اسم البلاد إلى «جمهورية فنزويلا البوليفارية»، وهو الاسم الرسمي للبلاد اليوم. لكن المفارقة في ما يجري اليوم أن تبني غوايدو المدعوم من الولايات المتحدة لبوليفار يوحي بأنه محاولة لتقديم رمز وطني بديل من تشافيز، الذي أقدم أنصار الرئيس الانقلابي على إحراق عدد من تماثيله في البلاد في الأيام الماضية، والفصل بين الحركة التشافيزية ومادورو وسيمون بوليفار الذي يحظى بقدسية لدى الشعب الفنزويلي.


موسكو مستعدّة للتوسط
أفادت وكالة الإعلام الروسية بأن موسكو، التي تتمسك بشرعية الرئيس نيكولاس مادورو، عرضت أمس التوسط بين الحكومة والمعارضة في فنزويلا «إذا اقتضت الضرورة»، وبأنها مستعدة للتعاون مع كل القوى السياسية «التي تتحلى بالمسؤولية»، بحسب ما نقلت الوكالة عن مدير قسم أميركا اللاتينية في الخارجية الروسية ألكسندر شيتينين. في غضون ذلك، أفادت وكالة «فرانس برس» بأن كندا ستستضيف اجتماعاً لمجموعة «ليما» التي تضم دولاً من الأميركيتين أيدت بمعظمها شرعية الرئيس الانقلابي خوان غوايدو، لبحث الأزمة في فنزويلا، من دون تحديد موعد للاجتماع. في الأثناء، طالب وزير الخارجية الإسباني، جوزيب بوريل، الاتحاد الأوروبي، بالاعتراف برئيس البرلمان الفنزويلي «رئيساً مؤقتاً»، وذلك في حال عدم إجراء انتخابات رئاسية «في أقرب وقت». وقال بوريل، أمس، إن الحكومة الإسبانية قدمت مقترحاً لمجلس الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي حول الوضع في فنزويلا، حاثاً الاتحاد على الاهتمام بالوضع في فنزويلا نظراً إلى ما اعتبره «الروابط الإنسانية والثقافية التي تربط الجانبين».