لندن | ازدادت أزمة حكومة «المحافظين» البريطانية تعقيداً، بعدما بدا واضحاً أن الأوروبيين غير عازمين على إنقاذ خطط رئيسة الوزراء تيريزا ماي، مُرجعين إليها كرة النار، في الوقت ذاته الذي يقف فيه الجيش على أهبة الاستعداد للتعامل مع فوضى محتملة. وبينما تتسابق الشركات الكبرى على تفعيل خططها للقفز من السفينة التي بدأت تغرق، يستمر طاقم هذه السفينة من النخبة السياسية في جدل بيزنطي عبثي، واصطفافات قبائلية محضة.حتى في أقسى لحظات الحرب العالمية الثانية، عندما كان أسطول الطائرات الألمانية يقضي جلّ أوقاته متجولاً في سماء لندن، لم تواجه بريطانيا أزمة وجودية عميقة كتلك التي نجح سياسيّو حزب «المحافظين» اليميني الحاكم ـــ بخليط من قصر نظرهم الاستراتيجي المعهود وتخندقهم الطبقي والعرقي ـــ في جرّ المملكة إليها، من خلال تبنّي حكوماتهم قضية الخروج من عضوية الاتحاد الأوروبي، أو ما صار يعرف بـ«بريكست».
رئيسة الوزراء تيريزا ماي، وعلى رغم التصويت النادر في مجلس العموم ضد مشروع اتفاقها مع المفوضية الأوروبية، عادت إلى البرلمان ـــ بعد فشل المعارضة في إقصائها عبر تصويت بالثقة ـــ بتعديلات هامشية على الخطة المرفوضة ذاتها، واعدةً بنقل كرة النار إلى ملعب بروكسل ـــ مقرّ المفوضية الأوروبية ـــ ومطالبة الأوروبيين بتقديم تنازلات ولو مرحلية في شأن نقاط عديدة، على رأسها مسألة شكل الحدود بين إقليم إيرلندا الشمالية الخاضع للتاج البريطاني وجمهورية إيرلندا.
لم تقنع تلك التعديلات أحداً، لا في صفوف المعارضة التي يقودها حزب «العمال» ولا حتى بين قطاع عريض من نواب الحزب الحاكم نفسه، فضلاً عن الأوروبيين الذين تقاطعت مصادرهم، سواء في بروكسل أو برلين أو دبلن، عندا الإعراب عن خيبة الأمل في شأن ما تطرحه ماي. وقد جاء ذلك بينما تعرّض وزير الخارجية البولندي، جيسيك كزابوتوزيك، لما يشبه التقريع العلني من كبير مفاوضي «بريكست» الأوروبيين، مايكل بارنير، الذي سارع إلى وصف اقتراح الوزير البولندي تأجيل حسم مسألة الحدود بين شطرَي إيرلندا خمس سنوات، وتسهيل التوصل إلى اتفاق مع ماي، بأنه رأي شخصي لا يعبّر عن موقف الاتحاد، مؤكداً أن مسألة الحدود لن تُطرح من جديد للتفاوض بأي شكل، ليعيد بذلك كرة النار إلى ملعب الحكومة البريطانية.
لكن الصفعات الأقسى لخطّة ماي أتت من خارج ملعب السياسة، وذلك عبر سلسلة من الأنباء المتسارعة عن تفعيل شركات بريطانية وأخرى متعددة الجنسيات، كما عدد من أثرى أثرياء البلاد، خططهم لما بعد «بريكست». المدير التنفيذي لشركة الطيران الأوروبية «إيرباص»، توم إنديرز، وصف إدارة الحكومة البريطانية لمفاوضات بريكست بـ«المخزية»، مُعلناً أن شركته ــ التي تصنّع أجنحة طائراتها في المملكة المتحدة ــ مضطرة لاتخاذ إجراءات للتعامل مع مرحلة ما بعد 29 آذار/ مارس، لم يستبعد أن تتضمّن نقل عملياتها إلى البرّ الأوروبي. وعُلم، أيضاً، أن شركة النقل البحري البريطانية العريقة «P&O» بدأت بالفعل تسجيل سفنها ــ بعد 182 عاماً من رفعها للعلم البريطاني ــ في قبرص التي تتمتّع بعضوية الاتحاد الأوروبي. يأتي ذلك فيما أعلنت شركة «SONY» عن نقل فوري لمقرّها الأوروبي من لندن إلى أمستردام، وكذلك فعلت «DYSON» التي نقلت مقرّها الرئيس إلى سنغافورة، على رغم أن مالكها السير جيمس دايسون، شوفيني بريطاني من عتاة مؤيدي الـ«بريكست». فضلاً عمّا تقدّم، أصبح بحكم المؤكد الانتقال القريب لمقر إقامة وعمليات السير جيم راتيكلايف، أثرى أثرياء بريطانيا، إلى موناكو. ونقلت الصحف تصريحات عن المدير التنفيذي لشركة «DIXSONS»، أكبر موزّعي الإلكترونيات في البلاد، عن إنتاج غير مسبوق لشاشات التلفزيون والكمبيوترات المحمولة، تحسّباً لما بعد 29 آذار/ مارس 2019 ـــ موعد انتهاء مهلة التوصل إلى اتفاق بشأن «بريكست» ـــ ليتبعه المدير التنفيذي لـ« PETS AT HOME»، أكبر شركة إمداد لأطعمة الحيوانات، بإعلانه عن مضاعفة المخزون لمجابهة انقطاعات محتملة قد تستمر عدة أشهر.
من المستبعد أن تتخذ بريطانيا أي اتجاه محدّد في وقت قريب


وقد تقاطع هذا السيل من الإشارات على يأس قطاع الأعمال من توافر مخارج حقيقية لأزمة الـ«بريكست»، مع تردّد الأنباء عن وضع عدة آلاف من جنود القوات المسلحة في حالة تأهّب للتعامل مع فوضى محتملة، سواءً على المعابر الحدودية أم في الشوارع، وصدور تعليمات من السلطات للشركات ومحال التجزئة والصيدليات الكبرى بالاستعداد للأسوأ، وتخزين كميات إضافية من المواد الغذائية والأدوية. وقد تحدّث أحد أكبر الموظفين التنفيذيين في الخطوط الجوية البريطانية عن تفعيل بروتوكولات طوارئ مؤقتة لضمان استمرار عمليات النقل الجوي مع أوروبا بالاتجاهين، إلى حين استقرار الأوضاع، ومن ثم الشروع في التفاوض في شأن ترتيبات جديدة دائمة. وقد أتى كل ذلك على رغم تأكيدات وزير المالية، فيليب هاموند، أن عدم التوصل إلى اتفاق مع الاتحاد الأوروبي قبل المهلة المحددة ليس على طاولة الحكومة.
إلا أن النقطة التي طرحها هاموند تسبّبت لماي بمزيد من الضغوط، بعدما تسرّبت أنباء عن تهديد عدد كبير من وزراء الحكومة بالاستقالة، إذا لم تتعهّد ماي بعدم الخروج من الاتحاد من دون اتفاق. ولعلّ ما يفاقم من مفاعيل الأزمة، أن المعارضة بدت غير قادرة على اتخاذ موقف محدّد في شأن «بريكست»، وذلك بعدما فشلت في محاولتها طرح الثقة بحكومة ماي. فقد قام عدد من نواب حزب «العمال» ـــ المحسوبين على تيار توني بلير ـــ بكسر قرار رئيس الحزب جيريمي كوربن، بعدم الانخراط في المناقشات مع ماي، إذ زار وفد منهم مقر الرئاسة في 10 داوننيغ ستريت، للتداول في تعديلات (طفيفة) على خطة الرئيسة العتيدة، مع التركيز على نقطة الالتزام بعدم تجاوز مهلة 29 آذار/ مارس من دون اتفاق ما. وبالتوازي مع ما تقدّم، بدأت التشققات تظهر بين معسكر يريد المضيّ بـ«بريكست» مخفّف، وآخر يدفع في اتجاه إجراء استفتاء جديد، تشير التوقعات إلى أنه قد يخلص إلى تصويت أغلبية (بسيطة) لصالح البقاء في عضوية الاتحاد الأوروبي.
فريق كوربن الأساسي ملتزم، إلى الآن، بعدم مدّ يد المساعدة لماي، في انتظار أن تشنق رئيسة الوزراء نفسها سياسياً، إن عاجلاً أو آجلاً، وفق رهان تزايدت حظوظه في الساعات الأخيرة على أن تُضطر ماي إلى الدعوة إلى انتخابات عامة جديدة كمخرج أخير من الأزمة. وقد عُلم بأن كلا الحزبين الكبيرين (المحافظين والعمال) على أهبة الاستعداد لخوض مثل تلك المنازلة، وأن قوائم المرشحين لمختلف المقاعد قد حُسمت تحسّباً لتطورات الأوضاع. لكن خبراء سياسيين يستبعدون أن تتخذ بريطانيا أي اتجاه محدّد في وقت قريب، سواء أُجريت الانتخابات أم لم تجر، أو أعيد الاستفتاء أم لا، إذ إن خطوط الانقسام قد تعمّقت خلال العقد الأخير بين الطبقات والأعراق والأقاليم، على نحو لم يعد معه ممكناً الخروج بأي توافق في شأن القضايا الكبرى، إلى درجة أن مسألة تفكّك المملكة ذاتها باتت تُطرح علناً في مجلس العموم. ومن المستبعد، نتيجة لذلك، أن تخرج النخبة السياسية من لجّة الجدل البيزنطي الذي تعيش فيه، أو من تخندقها القبائلي في أي وقت منظور، بهدف التوحّد حول سياسة وطنية الطابع. وما يزيد من هذا الاحتمال، أن شخصية رئيسة الوزراء العنيدة والعديمة الخيال، لا تساعد في بناء جسور من التعاون عابرة للأحزاب، تُسهم بدورها في رأب الصدع، بل إن ماي بتعنّتها خسرت كل الأطراف الذين كان مفترضاً أن يساعدوها على إدارة دفّة السفينة، أو أن يمدّوا لها حبل النجاة.