في الأسابيع الأخيرة، انحازت التغطية الإعلامية طوعاً إلى الخطاب السياسي الرسمي، في إثارة الخلط بين السترات الصفر والمخرّبين، إذ صارت تتأثر بعنف المحتجين في مواجهة الشرطة، وتعجل لذلك في إعلان إرهاق الحركة، التي يتفاقم ضعفها على التعبئة. في واقع الأمر، حتى في حال انتهت حركة السترات الصفر، فإنها أحدثت تغييراً مهماً بفكّها عزلة الطبقات الشعبية وصياغتها جزئياً تجربتها السياسية الأولى.ومع أن الدينامية المطلبية تحتاج مزيداً من النقاشات، لا يمكن إنكار أن هذه الحركة متعددة الطبقات، والمبهمة سياسياً، شديدة الأهمية من المنظور السوسيولوجي، فهي تدلل على اختلال النظام الديموقراطي الإجرائي، الذي يحرم المواطنين من تقرير مصيرهم، بسبب الميكانيزمات الاقتصادية الجبرية والالتزامات الأوروبية، كما تدلل أيضاً على فشل الأحزاب السياسية.
مع صعود حركة تتكون غالبيتها من الطبقات الشعبية شبه الحضرية، نصف الريفية والطبقات المتوسطة، قام تنظيم «التجمع الوطني» اليميني المتطرف («الجبهة الوطنية» سابقاً)، الذي يوظف منذ وقت بعيد الإحساس بالاستلاب الديموقراطي، عبر خطابه المعادي للنظام، بإعلان نفسه ناطقاً باسم مصالح الشرائح المهيمن عليها (التي تنتمي إلى «الفرنسيين الحقيقيين»)، لكنه فشل في استغلال التعبئة.
يُفسر عالم الاجتماع إريك مارليار، بعض أبعاد الصعوبة التي وجدها «التجمع الوطني» في إغواء السترات الصفر، بانعدام التناغم بين «المطالب» التي عبّرت عنها الحركة، والخيارات الاقتصادية والاجتماعية التي يتبناها الحزب.
يوضح نموذج إيطاليا القريب درجة التبعية تجاه الاتحاد الأوروبي


على رغم دفاع مارين لوبان، خلال حملتها الانتخابية الرئاسية عن إجراءين مهمين، هما، مواءمة الأجور مع نسبة التضخم، وحماية الصناعة والخبرات الفرنسية، الموجودان الآن ضمن قائمة مطالب السترات الصفر (التي يبقى أهم إجراء فيها هو تنظيم استفتاء بمبادرة مواطنية لاسترجاع «الديموقراطية المُصادرة»، على غرار ما حصل في سويسرا وإيطاليا)، يرى مارليار أن «التجمع الوطني تبنى بعد الانتخابات الرئاسية، منحى يفصله عن الطبقات الشعبية»، ويلاحظ أن 60 في المئة من هذه الفئة الاجتماعية، لم تدلِ بأصواتها أصلاً.
يشرح عالم الاجتماع ذلك بالقول: «اليوم تعارض مارين لوبان رفع الحد الأدنى للأجور، كما أفقدها موقفها الملتبس من الاتحاد الأوروبي، الكثير من مصداقيتها، حيث يتناقص باستمرار الجمهور المستعد للاستماع لنائب في البرلمان الأوروبي، وهي تشهر ببروكسل وتعجز في الوقت نفسه عن التعبير عن موقف واضح حول الخروج أو البقاء في الاتحاد». ويذكر مارليار أن من أهم شروط الطبقات الشعبية اليوم، هو إيجاد حل للدين الذي يقترب حجمه من 100 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، وهو مرجح للارتفاع في الأعوام المقبلة.
كلفة هذا الدين (مقدار الفوائض المدفوعة للدائن) ستتجاوز 42 مليار في موازنة عام 2019، وفق تقديرات «المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية- INSEE». ذلك في حين التزمت الحكومة (في إطار احترامها لاتفاقية ماستريخت)، تحت ضغط بروكسل، بتقليص عجز الموازنة تحت نسبة 3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. ويدقق إريك مارليار، أن «سداد هذا الدين يؤثر في السياسات الاجتماعية، وإعادة توزيع الثروات، ولا يملك التجمع الوطني، ولا أي حزب آخر، مقترحاً واضحاً حول هذه النقطة». وفقاً له، «يتمنى أصحاب السترات الصفر الأكثر ضيقاً للأفق، استقالة إيمانويل ماكرون، من دون التساؤل حول هامش المناورة المتوافر لدى أي مسؤول منتخب يجب عليه التعامل مع مشكلة الدين، ومع فتاوى بروكسل التي تجبرهم على البقاء متورطين».
في هذا السياق، يوضّح نموذج إيطاليا القريب درجة التبعية تجاه الاتحاد الأوروبي، فقد فنّد مزاعم دعاة الـ«فرنسيت» الطامحين إلى استقدام حكومة معادية للاتحاد الأوروبي، وتسمية سياسيين مدافعين عن هذا التوجه في المناصب المهمة. انتهى الأمر بالحكومة الإيطالية، المصمّمة على الخروج من الاتحاد بالاستسلام لبروكسل، بعد أن وبّختها المفوضية لرفضها احترام التزامات الحكومة السابقة، على رغم أن الموازنة التي اقترحتها تتلاءم مع معايير اتفاقية «ماستريخت».