فقدت السعودية موقعها كقطب إقليمي ودولي في المدى المنظور

تجري الرياح بما لا يشتهيه الرئيس دونالد ترامب. احتدام الصراع الداخلي الأميركي بينه وبين الدولة العميقة، وما ينجم عنه من تحقيقات وفضائح تتعلق به، والانتكاسة التي تعرض لها في انتخابات الكونغرس، وأخيراً «قضية خاشقجي»، و«اكتشاف» جريمة حرب اليمن من قبل الرأي العام الأميركي والعالمي، وتداعياتهما على موقع حليفه السعودي محمد بن سلمان، جميعها تطورات أدى تضافرها إلى إضعاف إدارته بقوة وبسرعة. خطابه الناري في القضايا الدولية وتهديداته ضد الصين أو إيران، التي يزعم فريقه أنه بلور الاستراتيجية الملائمة «لاحتوائها» لا تغير من هذا الواقع في شيء. لكن ضعف الإدارة الأميركية، وانهيار مخطط رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الضعيف أيضاً، لانشاء تحالف إسرائيلي ــــ أميركي ــــ خليجي لمواجهة إيران وإعادة صياغة الإقليم هي عوامل قد تدفع الأخير إلى خطأ في الحسابات وقرارات غير عقلانية بالهروب الى الحرب. المؤرخ والمفكر الفلسطيني رشيد الخالدي، الأميركي المولد واللبناني المنشأ حتى الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، الحائز كرسي إدوار سعيد للدراسات العربية المعاصرة في جامعة كولومبيا ومدير مجلة الدراسات الفلسطينية في الولايات المتحدة، قدّم لـ«الأخبار» قراءته لخلفيات هذه التطورات ومآلاتها المحتملة.
إدارة دونالد ترامب واقعة تحت ضغوط متزايدة في الولايات المتحدة، وهي باتت، حسب رشيد الخالدي، «أضعف بكثير من السابق لعدة أسباب؛ أولها، التحقيقات التي لا تقتصر على ما سمي التدخّل الروسي في الانتخابات، بل تجاوزته الى التمويل غير القانوني لحملة ترامب الانتخابية من قبل جهات مختلفة، بينها على ما يبدو أطراف عربية وإسرائيلية، وإلى فضائح أخرى لا علاقة لها بالشأن السياسي لكنها غير قانونية، لأن أموالاً مخصصة للحملة الانتخابية استخدمت لمغامرات نسائية خاصة للرئيس الأميركي. هذا يضع الإدارة في موقع ضعف على المستوى الداخلي. حذفت نيويورك تايمز المعلومة المتعلقة بالتمويل الإسرائيلي، لكن وسائل إعلام أخرى أوردته والأشخاص الذين قاموا بالتمويل معروفون وارتباطهم بإسرائيل علني. سبب آخر لضعف الإدارة هو نتائج الانتخابات النصفية التي أدت إلى خسارتها لمجلس النواب واحتفاظها بأغلبية في مجلس الشيوخ نتيجة طبيعة النظام الانتخابي الأميركي وليس نتيجة حصولها على أغلبية بين أصوات الناخبين. فمن أصل المئة مليون ناخب، 55% صوتوا لمصلحة الديموقراطيين و45% لمصلحة الجمهوريين. هذا دليل جديد على استياء الشعب من ترامب. هو لا يزال يتمتع بقاعدة موالية قوية، ما بين 40 الى 42%، الى أن الأغلبية معارضة له. العلاقة الشخصية التي تربطه وصهره وعائلته بالملك سلمان وابنه عامل وهن إضافي بالنسبة إليه ازداد أهمية بعد اغتيال خاشقجي وحرب اليمن. الغريب هو أن أهم اللوبيات في الولايات المتحدة، لوبيات الطيران والسلاح وشركات النفط، التي كانت في الماضي تتجاهل مثل هذه الأحداث، لم تعد تتدخل للدفاع عن السعودية لعدم قدرتها أو عدم رغبتها، وهو أمر غير واضح حتى الآن. تصدر اليوم مقالات وتصريحات تتعلق بنظام الحكم في السعودية وبأوضاعه الداخلية وسياسته الخارجية لا سابق لها منذ بداية العلاقات مع السعودية سنة 1933، أول حليف للولايات المتحدة قبل إنشاء الكيان الصهيوني وقبل تركيا».
الكثير من المواقف الأميركية حيال السعودية يكتنفه الغموض وتتعدد حوله التأويلات. «جميع دوائر صنع القرار والأقطاب الاقتصاديين يريدون استمرار العلاقات مع السعودية، وهناك إجماع على ضرورة بقاء النظام الملكي بقيادة آل سعود. التحول الذي طرأ على طبيعة الحكم بعد تسلم الملك سلمان للسلطة أزعج الكثيرين في الدولة العميقة الأميركية، مثلاً في وزارة الدفاع وأجهزة الاستخبارات، بسبب تفرد الملك وولي العهد في الحكم، وهو تطور مستجد في هذا البلد منذ تأسيس المملكة من قبل الملك عبد العزيز. بعد وفاته عام 1953، أضحى أقطاب العائلة شركاء في الحكم وصناعة القرار الذي كان جماعياً عائلياً. منذ تسلم الملك سلمان، غدا القرار فردياً وتم تحجيم جميع أقطاب العائلة الآخرين بعد إزاحتهم من جميع المناصب الحساسة كالدفاع والاستخبارات ووزارتي الداخلية والخارجية. آل نايف وفيصل وسلطان وعبد الله وفهد، أي أبناء الملوك الذين احتلوا مواقع مهمة في تركيبة السلطة، أُبعدوا وتمت إعادة هيكلة لبنية النظام بناءً على تصور الملك وولي العهد وفريقهما المقرب. وعلى الأغلب، فإن مثل هذا التصور، وما سبقه من تغييرات، تم التخطيط له منذ زمن ليس بقريب. أزعجت هذه التحولات أوساطاً وازنة في الولايات المتحدة لأن النظام في السعودية بات يرتكز على ملك مسنّ، يعاني مشكلات صحية، وعلى ابنه المفضل والمدلل، العديم الخبرة في شؤون السياسة والحكم وفي أوضاع العالم، والميال إلى المغامرات، وهو الأمر الأخطر. حسب معلوماتي، فان ولي العهد، قبل شن الحرب على اليمن، طلب من هيئة الأركان السعودية إعداد خطة للتدخل في هذا البلد. وعندما قدمت له خطتها، التي افترضت أن الحرب ستكون شديدة الصعوبة وعالية الكلفة، قرر تنحية بعض أعضائها من مناصبهم واستبدلهم برجالاته للمباشرة بالحرب مهما كان الثمن. هذا مثال على التفرد والرعونة واستعداد للمغامرة لم نر له مثيلاً منذ أيام الملك عبد العزيز. السمة الغالبة للملوك السعوديين السابقين كانت الحذر الشديد في قراراتهم وتصرفاتهم. حصار قطر واغتيال خاشقجي أمثلة أخرى على التفرد والميل إلى المغامرة. أثارت هذه التطورات انزعاج بعض دوائر الحكومة الأميركية، كوكالة الاستخبارات المركزية، التي أدت شهادة مديرتها أمام مجلسي النواب والشيوخ إلى هزة سياسية في أميركا. مداخلتها كانت سرية، لكنها سربت للرأي العام من خلال النواب والشيوخ الذين تناولوا مضمونها المتناقض تماماً مع مواقف الإدارة والرواية السعودية عن الاغتيال، وتشير الى وقائع كانت خافية عن الجميع. اختار ترامب المديرة الحالية، جينا هاسبل، على عجل لأنه كان يريد إزاحة ريكس تيلرسون من منصب وزير الخارجية وتعيين مايك بومبيو، مدير (سي آي ايه) السابق، في مكانه. جميع هذه الوقائع، والشكوك والمخاوف التي تثيرها، تشير الى أن هناك إعادة تفكير داخل دوائر صنع القرار في النظام الأميركي بطبيعة العلاقة مع السعودية من دون الذهاب إلى حد إعادة النظر بالتحالف معها. وقد يكون لعملية إعادة التفكير بداية تأثير، مجرد بداية، على العداء لإيران، الذي كان محط إجماع في المرحلة السابقة. لا يزال الإجماع موجوداً لدى الجمهوريين، ولدى الذين يمكن تسميتهم الجناح المؤيد لإسرائيل داخل الحزب الديموقراطي، أي قيادة الحزب، لكننا نسمع اليوم أصواتاً أخرى ترفض أن تقود السعودية أو إسرائيل السياسة الأميركية تجاه إيران. الأصوات المذكورة توجّه سهام نقدها المباشرة للسعودية، لكن المستهدفة ضمناً هي إسرائيل أيضاً».
انهيار حلم نتنياهو بحلف أميركي ــ إسرائيلي ــ خليجي قد يدفعه إلى الحرب


ألم تذهب إسرائيل بعيداً في تماهيها مع ترامب داخلياً وخارجياً؟ يقول الخالدي: «هي ذهبت بعيداً وربما سنكتشف في تحقيقات مولر أنها ذهبت أبعد من اللازم قانونياً. إذا ثبت أن هناك تبرعات غير قانونية من أطراف مرتبطة بإسرائيل، فسيكون لهذا الأمر تداعيات كبرى. الحديث عن تدخّل أجنبي في السياسة الأميركية يمسّ من؟ هل يمس الروس؟ التدخل الروسي طرفي إن صح التعبير. الصينيون وغيرهم يحاولون أيضاً. الإمارات والسعودية يسعيان لشراء نفوذ في واشنطن مثل جميع الدول، وهما لديهما كتلة مصالح وازنة على السياسة الأميركية. إنما الدولة التي لديها نفوذ هائل في الولايات المتحدة لا يتم الحديث عنها هي إسرائيل. اقتربنا من فتح هذا الملف، وهناك أكثر من عشرة استطلاعات للرأي، نظمتها مراكز مثل (بيو) و(بروكنغز)، تعتبر أن لإسرائيل نفوذاً زائداً عن المقبول في أميركا. أغلبية في الحزب الديموقراطي تجهر بهذا الموقف. وهناك اليوم مجموعة منتخبة من هذا الحزب في مجلس النواب مستعدة للكلام على هذا الموضوع. هذا لا يعني أننا سنشهد تغييراً سريعاً للسياسات الأميركية لأن قيادات الأحزاب مؤيدة لإسرائيل وأنصارها كثر في وسائل الإعلام، إلا أننا نشهد اليوم ارتفاعاً للأصوات الناقدة لإسرائيل في الوسط السياسي والإعلامي وهو تطور جديد».
الفريق الأميركي الحالي متطابق مع الموقف الإسرائيلي من إيران، لكنه سيعزف عن أي مغامرة عسكرية مباشرة ضدها، أولاً نتيجة معارضة الجيش الأميركي لها. خشي البعض من خطر إقدام ترامب على محاولات تبديل لقيادات عسكرية وما قد ينجم عنه بالنسبة إلى احتمالات قرارات غير محسوبة قد تفضي إلى الحرب. «حتى الآن، لم يجرؤ ترامب على فرض تغييرات في هيئة الأركان. وزير الدفاع لا يزال جنرالاً. عيّن مسؤولة عن الاستخبارات ورأينا النتيجة، وهي أنها اليوم من ألدّ أعدائه. لم ينجح في المؤسستين الأمنية والعسكرية على عكس ما أنجز على مستوى وزارة الخارجية. الجيش الأميركي لا يزال معارضاًَ لأي مواجهة عسكرية مباشرة مع إيران. الاستراتيجية المعتمدة حالياً ضد إيران، رغم كل المزاعم عن أنها تستلهم استراتيجية ريغان ضد الاتحاد السوفياتي، هي جديدة ــــ قديمة. ما يقدم على أنه الجديد هو تشديد العقوبات والضغوط الاقتصادية وعمليات تخريب وزعزعة استقرار وحرب سيبرانية، وجميعها أدوات لاستراتيجية قديمة لن تنجح في تحقيق أهدافها برأيي. الضغط الاقتصادي قد يكون له بعض التأثير، لكنه لن يسقط النظام في إيران. ليست الضغوط الاقتصادية التي مارسها ريغان ما أسقطت الاتحاد السوفياتي، بل تراكم المشكلات منذ أيام ستالين، أي لمدة خمسة عقود. سبب من أسباب التركيز على لبنان وسوريا هو استحالة الهجوم على إيران وصعوبة نجاح الاستراتيجية المذكورة».
ما مدى إمكانية تشجيع الولايات المتحدة إسرائيل على القيام بحرب على لبنان وسوريا كجزء من استراتيجية احتواء إيران في الإقليم؟ «إسرائيل لم تحارب في الماضي، ولا تحارب في المستقبل إلا بإذن من الولايات المتحدة. الوثائق أمامنا عن حربَي 1967 و1982. ترامب انتخب على قاعدة رفض تورط الولايات المتحدة في حروب في الشرق الأوسط، وهي القاعدة نفسها التي انتخب عليها ياراك أوباما. الشعب الأميركي لا يؤيد التورط في مثل هذه الحروب منذ انتخابات 2004 حسب استطلاعات الرأي. من غير الوارد أن تحارب أميركا في سوريا مثلاً. أما الموافقة على حروب غير مباشرة وعمليات عسكرية إسرائيلية، ليس في سوريا حيث يوجد غطاء روسي، ولكن في غزة أو في لبنان أمر محتمل. بين العوامل التي قد تدفع إسرائيل إلى شن الحرب هو عدم الاستقرار الحكومي فيها ومزايدة اليمين على رئيس وزرائها. معركة غزة الأخيرة ونتائج القصف المتبادل أحرجت الحكومة ونتنياهو والمؤسسة العسكرية. لا يتمتع نتنياهو اليوم بأغلبية أكيدة، وهناك انتخابات في الأفق. هذه بعض العوامل التي قد تفضي إلى اتخاذ قرار، غير منطقي، بالحرب. المؤسسة العسكرية تدفع في هذا الاتجاه مع إدراكها للنتائج المخيفة لهذا القرار. نتنياهو ليس مغامراً، وهو لا يتمنى الحرب، لكن ضعفه السياسي وضغط الجيش ممكن أن يدفع إليها. هناك عامل آخر هو اقتناع نتنياهو بحتمية قيام تحالف أميركي ــــ إسرائيلي ــــ خليجي وبدخول العلاقات الإسرائيلية الخليجية مرحلة جديدة ونوعية وبدعم أميركي مطلق لجميع مطالبه المتعلقة بالضم والتهويد، ما يفسر قانون القومية الذي تم التصويت عليه. لكن المنحى الذي أخذته العلاقات السعودية ــــ الأميركية بعد قضية خاشقجي وانتصار الديموقراطيين في انتخابات مجلس النواب عرقل حساباته. لقد ضعف الموقع الإقليمي والدولي للسعودية بشكل كبير جداً. خابت آمال نتنياهو بإعادة رسم خريطة المنطقة مع ترامب وابن سلمان وابن زايد وباحتواء إيران. قد تدفع هذه الحقائق أيضاً إلى قرارات غير عقلانية».