احتجاجات «السترات الصفر»، التي تبدت في أجوائها ورسائلها أحوال اجتماعية مضطربة وساخطة على رفع ضرائب الوقود، ليست غضباً عابراً ينتهي فعله بتعليق إجراءاته بقدر ما كانت تعبيراً عن أزمة عميقة في المؤسسة الفرنسية. أسوأ اقتراب ممكن من تلك الاحتجاجات حصرها في أسبابها المباشرة التي استدعت تظاهرات شملت العاصمة باريس ومدناً فرنسية عدة، وتشبيهات محملة على أهواء لتفسيرها.قيل إنها «ربيع فرنسي» لمجرد أن بعض مشاهدها شابتها حوادث عنف وتخريب مروعة في قلب مدينة النور عند «قوس النصر»، ووسائل تعبئتها اعتمدت على شبكة التواصل الاجتماعي، أو أن بعض شعاراتها دعت إلى رحيل الرئيس إيمانويل ماكرون، كأنه يمكن أن يلقى مصير حسني مبارك في مصر وزين العابدين بن علي في تونس وعلي عبد الله صالح في اليمن ومعمر القذافي في ليبيا، دون إدراك للفروق الجوهرية بين ما يجري هناك وما جرى هنا. وقيل إنها «مؤامرة أميركية» للنيل من ماكرون على خلفية دعوته إلى جيش أوروبي يحفظ أمن القارة بعيداً عن «الناتو»، وهذا إمعان في نظريات المؤامرة دون دليل واحد.
الأهواء المشبعة بنزعة الانتقام من «ثورة يناير»، أو الإدانة المسبقة لأي احتجاج اجتماعي مهما كانت أسبابه ومواقعه على خريطة العالم، لا تساعد على إدراك الحقائق الأساسية وتشوش على الفهم العام لما يحدث في بلد أوروبي جوهري وتأثيراته المحتملة في موازين القوى الدولية وحسابات المصالح هنا. بالقدر نفسه، فارقت بعض التوصيفات الجاهزة في فرنسا نفسها أي قدرة على إدراك حقائق الموقف، كأن يعزى إلى أبناء الضواحي من المهاجرين مسؤولية العنف، أو تنسب الظاهرة كلها إلى جماعات فوضوية تستهدف ضرب مؤسسات الدولة، على ما صرح وزير الداخلية كريستوف كاستنير وهو يدعو في ذروة الأحداث إلى فرض حالة الطوارئ، غير أن دعوته لم يستجب لها.
بقدر حجم الغضب الشعبي، اكتسبت احتجاجات «السترات الصفر» عمق تأثيرها، وكان تعليق الإجراءات محتماً؛ لم يكن هناك مخرج آخر. هذا ما توصل إليه ماكرون بعد ممانعة طويلة، ففرنسا لا تحتمل موجة أخرى من الاحتجاجات التي شلت العاصمة وأزعجت سياحها قرب احتفالات الكريسماس، ونحو 72% من الفرنسيين يؤيدون مطالب أصحاب «السترات الصفر» رغم الاعتراض على مظاهر العنف والتخريب، والاعتراض نفسه شمل القطاع الأكبر من المحتجين. وجد ماكرون نفسه في مأزق يتعلق بمستقبله السياسي، إذ انخفضت قاعدة شعبيته وفق استطلاعات الرأي العام إلى 26%، مرشحة فيما لو عاند وكابر لمزيد من التدهور، وربما العجز عن إدارة الدولة رغم الأغلبية النيابية المريحة التي يتمتع بها.
بعض أسباب تراجع شعبيته ارتفاع معدل البطالة إلى 9.1% وانخفاض معدل النمو الاقتصادي إلى 1,6%، وعدم التزامه وعوده الانتخابية بتنشيط الحياة الاقتصادية وتحسين مستويات معيشة الفرنسيين. هبطت الضرائب الجديدة على الطبقة الوسطى والعائلات الفقيرة كعقاب غير مستحق من رئيس يعمل على تشجيع الاستثمار بتقليل العبء الضريبي على الشركات والأثرياء، وإنفاذ المبادئ البيئية على حسابهم. بترجمة أخرى: إن ارتفاع سعر وقود الديزل الأكثر استخداماً في السيارات بفرنسا بذريعة الانتقال البيئي يؤدي عملياً إلى رفع كلفة الحياة في المناطق البعيدة والريفية التي لا تتمتع بما في العاصمة من شبكات مترو أنفاق حديثة وخطوط نقل عام متقدمة.
بقوة الحقائق، تراجع الرئيس الفرنسي خطوتين إلى الخلف: دعا رئيس حكومته إدوار فيليب إلى إجراء حوارات عاجلة مع الكتل النيابية وقيادات الأحزاب وممثلي «السترات الصفر» قبل أن يقرر إرجاء زيادة ضرائب الوقود ستة أشهر يجري خلالها نقاش موسع في البلاد. لم يكن الحوار مع المحتجين ممكناً، فالحركة بلا قيادة ولا يجمع بين أطرافها برنامج سياسي من أي نوع يتعدى فكرة الاحتجاج الاجتماعي على إجراءات بعينها، وتقدم أي طرف للتفاوض مشروع اتهام جاهز ومشرع بعقد الصفقات على حساب الحركة. ولم يكن الحوار مع المعارضة باختلاف توجهاتها السياسية والاجتماعية منتجاً لأي توافق، باستثناء تعطيل الإجراءات التي استدعت الغضب الشعبي الواسع، وهو ما حدث.
كلمة الرأي العام فرضت نفسها. يصعب إدراك أي شيء وكل شيء إذا لم ندرك تلك الحقيقة. شرعية الاحتجاج الاجتماعي تكتسب قوتها من دعم الرأي العام بأكثر من أحجام التظاهرات. كما يصعب إدراك أي شيء وكل شيء إذا عجزنا عن إدراك أهمية الحوار في تجاوز الأزمات وصناعة التوافقات ولو في حدها الأدنى. لم تكن احتجاجات «السترات الصفر» منظمة أو سياسية، وكان ذلك مصدر قوتها وضعفها معاً.
الظاهرة نفسها حالة تمرد على المؤسسة، وكان ذلك ملمحها الرئيسي الذي سوف يلقي بظلاله على المستقبل الفرنسي القريب. غابت الأحزاب والنقابات وكل ما له صلة بالمؤسسة الفرنسية العريقة بتاريخها والمأزومة في أوضاعها عن أي تأثير جدي في حركة الحوادث وعجزت عن أن تمثل أي قنوات سياسية فعالة وكفوءة في إدارة الموقف. وهذا وضع خطر على مستقبل الديموقراطية الفرنسية.
كان صعود ماكرون نفسه إلى قصر الإليزيه تعبيراً عن أزمة المؤسسة. لم يكن وجهاً معروفاً حتى تولى حقيبة الاقتصاد في عهد الرئيس الاشتراكي السابق فرانسوا أولاند. استثمر سياسياً في الضجر العام من تفشي الفساد في البنية القيادية للحزبين الكبيرين «الجمهوريون» و«الاشتراكي» وعجزهما عن تقديم برامج ورؤى جديدة، ونجح في إقصائهما معاً عن قصر الرئاسة وهمش أدوارهما في الجمعية الوطنية التي اكتسحها حزبه الوليد «الجمهورية إلى الأمام» الذي يرتبط بشخصه ولا شيء آخر تقريباً.
كان ذلك تمرداً على مؤسسة تآكلت صدقيتها. وكان الرأي العام مستعداً للمضي بعيداً في إزاحة ما تآكل.
كلمة الرأي العام فرضت نفسها؛ يصعب إدراك أي شيء إذا لم ندرك تلك الحقيقة

لم يكن مستغرباً حصول جان لوك ميلانشون، وهو مرشح اليسار الراديكالي، على 19,5%، وماريان لوبان، مرشحة اليمين المتطرف، على 21,3%، وخروج مرشحي الحزبين التاريخيين من سباق جولة الإعادة. بدا ماكرون رمزاً للتمرد على المؤسسة المتهالكة، لكنه لم ينجح في تجديد شبابها أو ضخ ثقة عامة فيها، قبل أن يعاني وطأة تمرد آخر عليه هو نفسه.
قوة الرموز في «السترات الصفر» لا تخلو من رسائل تتعدى الاجتماعي المباشر إلى السياسي الكامن. وفق القانون الفرنسي، أي سيارة تتعطل على الطريق عليها أن تقف على جانبه ويرتدي سائقها سترة صفراء للفت انتباه السيارات القادمة إلى أن هناك شيئاً يستدعي الحذر. لم تكن مصادفة أن معالجات صحافية فرنسية بدأت تشير إلى أزمات النظام الاقتصادي والاجتماعي كأنها محاكمة للمؤسسة المهيمنة.
ولا كانت مصادفة أخرى الدعوات التي أطلقتها أحزاب المعارضة، رغم التناقض بينها، لحل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة في استثمار سياسي لترنح ساكن قصر الإليزيه. ربما يكون الاختبار المقبل الانتخابات الأوروبية في أيار/ مايو 2019، إذ من المحتمل أن تدور صراعاتها حول الهجرة ووجود فرنسا نفسها في الاتحاد الأوروبي.
وليس من المستبعد، ورسائل «السترات الصفر» ماثلة خلف دخان القنابل المسيلة للدموع، إذا لم تنجح الديموقراطية الفرنسية في الحفاظ على حقوق الرعاية الاجتماعية لمواطنيها وتجنب محاذير الرأسمالية المتوحشة، أن يتحول التمرد عليها إلى حالة انتحار تاريخي بصعود التيار اليميني المتطرف إلى سدة الحكم في أكثر الدول الغربية انفتاحاً على القيم الحديثة.
* كاتب وصحافي مصري