روسيا تلتف على الاحتواء عبر العودة إلى دول الجنوب تمكين المجتمع المدني هو الخيار المجدي لدعم «الدمقرطة»


تطورات متلاحقة تشي بأن التنافس بين القوى الدولية يتجه نحو الاحتدام في أرجاء المعمورة. وإذا كان هذا الأمر جلياً في قلب المشرق العربي، في سوريا، حيث تتموضع قوات روسية وأميركية في مقابل بعضها البعض، فإن ساحات أخرى تشهد تصاعداً لهذا التنافس، خصوصاً مناطق «البطن الرخو» للنظام العالمي، كبعض بلدان أفريقيا جنوب الصحراء، التي تحولت بسبب دولها «المتداعية» إلى فضاء مستباح ومفتوح أمام مختلف أشكال التدخلات الدولتية وغير الدولتية. ولا يقتصر التنافس على البعد الجيوستراتيجي، أي على بناء شراكات سياسية وعسكرية مع الأنظمة الحاكمة، بل يتعداه إلى البعد الجيواقتصادي، أي التنازع على الموارد والأسواق. بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، شرعت الولايات المتحدة بتوسيع دائرة نفوذها في القارة السمراء، فضمت إليها دولاً كانت محسوبة على الكتلة الاشتراكية، كإثيوبيا وأنغولا، وباشرت بقضم بقايا النفوذ الفرنسي في بلدان منطقة البحيرات الكبرى، كروندا والكونغو. لكن التحولات في الوضع الدولي، المرتبط بعضها بسعي روسيا للخروج من أسر استراتيجية الاحتواء والتطويق المعتمدة ضدها من قبل حلف «الناتو» عبر الالتفاف عليها والتموضع في بقاع من العالم تقع في دائرة النفوذ الغربي، أعادت أفريقيا ساحة من ساحات الصراع بين القوى الكبرى. ويأتي الدور الصيني المتعاظم على المستوى الاقتصادي في القارة، واحتمالات الشراكة بينه وبين روسيا، ليغذي هذا الصراع. هذه الوقائع المستجدة تثير نقاشاً في أوساط صناع القرار في فرنسا، وبين المعنيين بقضايا السياسة الخارجية والحرب الاقتصادية حول تعديل أو حتى إعادة صياغة هذه السياسة لتكون أكثر ملاءمة للبيئة الاجتماعية ــ السياسية والجيوسياسية المتغيرة ولتتيح الحفاظ على المصالح الفرنسية عبر نسج شراكات مع لاعبين محليين متعددين.
التحولات في الوضع الدولي أعادت أفريقيا ساحة من ساحات الصراع


يرى جان رونو فايول، المسؤول في إحدى أهم شركات التحريات الاقتصادية (Intelligence Economique) في فرنسا «أكسيس» (Axis)، والرئيس في الآن نفسه لمؤسسة «فونديموس» (Fondemos)، المعنية بدعم التحول الديموقراطي في دول أفريقيا، أن الوجهة الأصح هي الخروج من المقاربة التي سادت حتى الآن والتي تتلخص بحصر الاختيار بين أنظمة الحكم القائمة ومعارضاتها التقليدية والرهان على المجتمع المدني وقدرته على بلورة بديل من خارج الثنائية المذكورة. فايول ضابط سابق في «الفيلق الأجنبي» (Legion etrangere)، وهي من أفضل وحدات الجيش الفرنسي تدريباً وخبرة في التدخلات الخارجية، استقال من المؤسسة العسكرية في سن الخامسة والعشرين ليكرس بعدها حوالي العشرين سنة من حياته لدعم حركات معارضة «في آسيا وأفريقيا»، كما يحلو له القول، ولنقل خبراته المتنوعة لها. عاد من ثم إلى فرنسا وأسس مع شركاء «أكسيس» التي تعمل على النطاق العالمي. خبراته المتعددة والميدانية وشبكة علاقاته الواسعة تغني مقارباته للشؤون الدولية والأفريقية.

من التنافس إلى الحرب
الاقتصاد العالمي يتحول تدريجياً إلى ساحة حرب بين اللاعبين الاقتصاديين الرئيسيين، أكانوا شركات كبرى أو دولاً. يقول جان رونو فايول: «أنا من المهتمين بهذه الظاهرة منذ بداياتها وأحد المشاركين فيها بتواضع. هناك مستويان مترابطان للحرب الاقتصادية: الأول، هو التنافس المحموم بين الشركات نتيجة طغيان منطق السوق على صعيد عالمي ومسعى هذه الأخيرة للتمركز في البلدان التي تضعف أو تنعدم فيها الضوابط القانونية، وحيث اللجوء إلى جميع الوسائل غير المشروعة متاح. من بين هذه الوسائل دفع الرشاوى والإفساد واستغلال العلاقات الخاصة مع السلطات السياسية للحصول على العقود معها وللإضرار بالمنافسين أو تهديدهم أو حتى التسبب بطردهم من البلاد. الثاني، هو الصراع بين الدول الكبرى التي تحاول بشراسة الدفاع عن مصالحها الوطنية وتعظيمها على عكس الأطروحات التي بشرت في مرحلة ما باضمحلالها تدريجياً. جميع الدول، بدرجات متفاوتة بين بعضها البعض، تتنافس للاستيلاء على أسواق و/أو موارد طبيعية. قد تكون الحرب الاقتصادية أقل حدة من تلك العسكرية، لكن لا يتخللها هدن ولا تتوقف أبداً».
تستعر الحرب الاقتصادية في «المناطق الرمادية» للنظام العالمي التي تشهد انهياراً لبناها السياسية والاجتماعية في قسم من العالم العربي وأفريقيا جنوب الصحراء وتحول بعضها مجدداً إلى ساحة للصراع بين القوى الدولية مع عودة روسيا إليها. «روسيا كانت قد خرجت تماماً من القارة الأفريقية بعد انهيار جدار برلين. هي انطوت على نفسها لفترة طويلة لكنها منذ عام 2006، عند زيارة الرئيس فلاديمير بوتين لجنوب أفريقيا والجزائر والمغرب، أعادت وصل ما انقطع مع هذه البلدان وشكلت الزيارة إيذاناً بسياسة أفريقية نشطة لروسيا. ازدادت قوة الحضور الروسي في القارة خلال عام 2018 عبر صفقات سلاح مع جزء من بلدانها ونقل للخبرات الأمنية والعسكرية إليها. الاعتبارات التي حكمت عودة روسيا كانت جيوستراتيجية قبل أن تكون اقتصادية أو تجارية، فهي بلد غني جداً بالموارد الطبيعية، على عكس الصين والدول الأوروبية. هي ما زالت تعتبر أنها تواجه استراتيجية احتواء وتطويق يعتمدها حلف الناتو. وقد عززت الثورات الملونة المدعومة من الغرب في جورجيا وأوكرانيا لدى القيادة الروسية هذه القناعة. لذلك، هي قررت كسر محاولات التطويق عبر الذهاب إلى حيث لا ينتظرها أحد. وتتسم عودتها أيضاً على المستوى العملي والميداني بالذكاء. فهي استحدثت، لغرض نقل الخبرات العسكرية والأمنية للدول شركة أمن خاص، مجموعة فاغنر، هي بمثابة القوة الرديفة للجيش الروسي وباتت موجودة في أفريقيا الوسطى والسودان وجنوب أفريقيا حيث تدرب كتائب عسكرية وتشارك حتى في بعض المعارك من دون الإقرار بذلك. تعتمد روسيا اليوم أساليب اعتمدتها قبلها بزمن طويل فرنسا مع مجموعات مرتزقة عملت لحسابها، كمجموعة المرتزق بوب دونار، أو الولايات المتحدة مع بلاك ووتر وأخواتها الممولة بالنتيجة من صناديق الدولة الأميركية. الطابع الخاص لهذه الشركات الأمنية هو مجرد تضليل. تعيد روسيا تسليح وتدريب وحدات جيش أفريقيا الوسطى وكذلك الحرس الرئاسي ومن يتولى حماية الرئيس يستطيع بغاية السهولة التجسس عليه. نستطيع أن نفترض أن الخطوة التالية ستكون إعادة تشكيل وتدريب جهاز الاستخبارات».

الحرب الاقتصادية أقل حدة من تلك العسكرية لكن لا يتخللها هدن


تحضر روسيا من جديد من الأطراف، لكن تمويل تدخلها يتم، بحسب فايول، من الموارد الطبيعية عبر صيغة شراكة بينها وبين الأوليغارشية المحلية. «روسيا تستنسخ حالياً في الخارج صيغة الشراكة بين بوتين والأوليغارشية الروسية التي يستند إليها والتي يلزم لأطرافها أنشطة اقتصادية ومالية مقابل دعمها له. الأمر نفسه ينطبق على بعض الدول الأفريقية التي يؤمن لها الدعم العسكري مقابل حصوله على دعمها السياسي له، في الأمم المتحدة مثلاً، وقيامها بتمويل التدخل الروسي من خلال عقود بيع لمواردها بأسعار وشروط مناسبة لروسيا. الصين أصبحت لاعباً من الدرجة الأولى في أفريقيا، لكنها لاعب اقتصادي أساساً يتمحور اهتمامه بالموارد الأولية وهو لا يعتمد سياسة أو مواقف معادية لفرنسا. أما روسيا، فقد رصدنا في الفترة الأخيرة اشتداد الحملة المعادية لفرنسا التي تشنها صحف ممولة من قبلهم في أفريقيا الوسطى. يعتمد الطرفان، روسيا والصين، نفس الخطاب حيال الدول الأفريقية، في إطار تنافسهم مع القوى الغربية: نحن لم نستعمركم في السابق كما فعل الأوروبيون ولا نعطيكم اليوم دروساً في الديموقراطية وحقوق الإنسان كما يفعلون. يلاقي هذا الخطاب استحساناً كبيراً من جانب المجموعات الحاكمة بطبيعة الحال. لقد أصبح واضحاً من جهة أخرى أن التنسيق الروسي ــ الصيني يتعدى مستوى الخطاب إلى مستوى تقسيم العمل الميداني، روسيا تتولى الشأن العسكري والسياسي، والصين الشأن الاقتصادي، كما هي الحال في أفريقيا الوسطى، وهذا النموذج مرشح للتكرار في دول أخرى».

دعم المجتمع المدني كخيار بديل
يعتقد فايول أن قطاعات واسعة من المجتمعات الأفريقية لا تعتبر نفسها ممثلة لا من الأنظمة الحاكمة ولا من أحزاب المعارضة الصورية والتقليدية التي تسمح لها الأولى بالوجود للحفاظ على مظهر ديموقراطي ما. هو يجزم أن هذه القطاعات تريد التغيير الديموقراطي أولاً، حالها في ذلك حال غالبية شعوب العالم. «الخطيئة الكبرى كانت محاولة فرض الديموقراطية من الخارج من خلال التدخل العسكري كما فعلت إدارة بوش مع العراق عام 2003 أو من خلال الثورات الملونة المدعومة من الخارج والمستندة أساساً إلى نخبة كوزموبوليتية منفصلة عن مجتمعها الفعلي. الشعوب تريد الديموقراطية مع مراعاة للخصوصيات المحلية الاجتماعية أو الثقافية أحياناً. هذا سبب كاف لدعم تطلعاتها. القوى التي يمكن الاعتماد عليها للتغيير هي قوى المجتمع المدني. إذا عدنا إلى تعريف شديد العمومية، المجتمع المدني يضم جميع الذين لا يقومون بوظائف سياسية أو عسكرية. لكن هذا المجتمع يضم فئات طليعية لديها مستوى كاف من الوعي للاهتمام بالشأن السياسي، بناء أطر تنظيمية من نمط جديد وابتكار أساليب نضالية جديدة وخلاقة. الأشكال الاحتجاجية الهادفة إلى كشف طبيعة نظام حاكم أمام الرأي العام العالمي، كما يفعل مؤتمر الإيغور العالمي مثلاً، غير كافية بتاتاً. نحن من جهتنا نهتم بالحركات التي قررت أن تتنظم وأن تضع خطة عمل للتغيير، اعتماداً على قواها الذاتية أولاً، حتى لو سعت للاستفادة من الدعم الخارجي. لدينا مثال عن إمكانية قيام قوى المجتمع المدني بذلك وهو ما حصل في بوركينا فاسو عام 2014 عندما انتفض الشعب ضد حكم الرئيس بليز كومباوري. لم يلجأ الناس إلى السلاح بل إلى قوة الشارع، إلى احتلال الساحات والشوارع وإلى التعبئة العامة للشعب كما يشرحه جين شارب في كتابه الشهير الذي كان مرجعاً للشباب المنتفض في تونس ومصر». ولكن هل تجد هذه المقاربة آذاناً صاغية في أوساط صناعة القرار في فرنسا؟ «نلاحظ في فرنسا بداية تغيير، على مستوى المؤسسات وعلى مستوى الرئاسة. علينا أن لا ننسى أن الرئيس نفسه قادم من المجتمع المدني وأنه سعى لاستقطاب قطاعات من هذا الأخير لأن إيمانويل ماكرون لم يكن لديه حزب فقام بتأسيس حزب معتمداً عليه إلى حد ما. لهذا السبب هو يفهم ويتعاطف مع ما تقوم به المجتمعات المدنية في بلدان أخرى وعندما يقوم بزيارات خارجية، يحرص على اللقاء بممثلين عنها والتفاعل معهم».