لم يكن وصف بنيامين نتنياهو لقرار فرض العقوبات الأميركية على إيران بـ«الخطوة التاريخية» إلا تعبيراً عن أهمية هذا الخيار وأولويته القصوى من منظور الأمن القومي الاسرائيلي، في محتواه وتوقيته وسياقه، والرهانات المعقودة على مفاعيله المفترضة. وفي الخلفية، بدت القيادة الإسرائيلية مرتاحة لتصدي الولايات المتحدة لهذه المهمة، بالنيابة عن إسرائيل التي يقر قادتها بمحدودية خياراتها، في مواجهة الجمهورية الاسلامية، بفعل المزايا الاستراتيجية التي تتمتع بها، وظروف موضوعية وتحالفاتها الاقليمية.يأتي فرض العقوبات في السياق الإسرائيلي بعد فشل الرهانات على الجماعات الارهابية والتكفيرية، والانتصارات التي حققها محور المقاومة في سوريا والعراق ولبنان، الأمر الذي ترك وسيترك تداعيات استراتيجية على معادلة الصراع مع إسرائيل. أتى هذا الموقف في محطة مفصلية إقليمية بعد سنوات من الصراع الدموي الذي كان يهدف الى إسقاط المنطقة بهدف تعزيز الأمن القومي الإسرائيلي وبسط الهيمنة الأميركية وتعزيزها. وما أسهم إسهاماً أساسياً في بلورة خيار العقوبات الاقتصادية ودفعه، وصول دونالد ترامب إلى الرئاسة، والذي يتبنى رؤى ومواقف وخيارات مغايرة تماماً لسلفه باراك أوباما، في كل ما يتعلق بالموقف من الاتفاق النووي، والقضية الفلسطينية.
هذا التقاطع بين المستجد الداخلي الأميركي والمفاجآت الاقليمية (لجهة الانتصار على الإرهاب وفي مدة زمنية خارج توقعات المؤسسة الاستخبارية الإسرائيلية)، أنتج هذا الخيار البديل، إلى جانب خيارات أخرى تتصل بكل من لبنان وسوريا والعراق، والذي ترى فيه تل أبيب فرصة لتحقيق ما عجزت عنه كل المخططات والمحاولات السياسية والأمنية والاقتصادية، خلال السنوات والعقود السابقة!
الطموح الإسرائيلي يتجاوز إعادة فرض العقوبات الاقتصادية على إيران، وإنما يذهب إلى حد الأمل، وإن استطاعت السعي، إلى حد توجيه الولايات المتحدة ضربة عسكرية قاصمة للنظام الاسلامي في طهران تؤدي إلى إسقاطه أو على الأقل إضعافه على المستويات الاقتصادية والعسكرية بما يؤدي الى إسقاط العمق الاستراتيجي لمحور المقاومة، وينتج فرصة تاريخية لإطباق الهيمنة الأميركية والإسرائيلية على المنطقة. لكنّ معادلات الردع المتبادلة وحسابات المؤسسة العسكرية الأميركية، حالت طوال السنوات الماضية دون هذا التورط في هذا المسار، ولو كان ذلك ممكناً لكانت استغنت عن كل المخططات البديلة التي لم تنجح في كبح تقدم إيران وتطورها العلمي والعسكري وتطور قدرات محور المقاومة وتمدده الإقليمي.
في ضوء ذلك، لم يعد أمام أعداء محور المقاومة وإيران من سبيل سوى البحث عن خيارات بديلة، وأهمها الخيار الاقتصادي، بالتكامل مع حروب إعلامية ونفسية وأمنية، ليست أقل خطورة. لكن الملفت أن تل أبيب تُظهر بشكل متعمد تفاؤلاً مفرطاً إزاء مفاعيل العقوبات، وهو ما برز في مواقف نتنياهو وتقديرات الاستخبارات العسكرية «أمان».
عبَّر نتنياهو عن اقتناعه بمفاعيل العقوبات مع دخولها حيز التنفيذ، بالاشارة إلى أن أثرها «أصبح ملموساً؛ الريال في الحضيض واقتصاد إيران في الحضيض، ونحن نرى النتائج على الأرض». وتزامن ذلك مع تقدير للاستخبارات العسكرية، قدّمه رئيس قسم الأبحاث العميد درور شالوم، في مقابلة مع «يديعوت أحرونوت» (2/11/2018)، يفيد بأن «العقوبات ستنتج دراما كبيرة في الساحة الإيرانية، وستؤدي إلى تدهور الوضع الاقتصادي. وإيران موجودة في الحضيض». وفي السياق نفسه، تندرج أيضاً تقديرات الأجهزة الاستخبارية، كما أكدت تقارير إعلامية، بأن «المحاولات الأوروبية لآليات تعويض إيران عن العقوبات الأميركية مصيرها الفشل»، وأن نشاطات روسيا والاتحاد الأوروبي ودول أوروبية متورطة في ذلك، لن تغيّر من زخم خطوات واشنطن.
في موازاة ذلك، ينبغي التذكير بحقيقة أن نتنياهو كان من المعارضين بشدة للاتفاق النووي مع إيران، انطلاقاً من أنها استطاعت أن تنتزع اعترافاً دولياً بحقها في التخصيب على أراضيها، وتحديد مدة زمنية للاتفاق، والتشدد في عدم تقديم أي تنازلات تتصل بقدراتها الصاروخية والعسكرية، وبخياراتها الاستراتيجية والموقف من إسرائيل ودعم المقاومة. وعارض في حينه أيضاً رفع العقوبات الاقتصادية التي كانت مفروضة على إيران من قبل مجلس الأمن، بفعل الاتفاق، انطلاقاً من أن ذلك سيؤدي إلى تعزيز مكانتها الإقليمية والعسكرية والاقتصادية.
في المقابل، الصورة من إيران تبدو معاكسة للتفاؤل السائد في المؤسستين السياسية والأمنية في تل أبيب، وإن كانت آثار العقوبات تظهر بشكل جلي، وتحديداً في تقلبات العملة الإيرانية. لكن لا يوجد أي مؤشرات على أي ليونة سياسية في توجهات النظام، بل المزيد من التمسك بالمواقف والخيارات، والتأكيد أن إيران قادرة على احتواء مفاعيل العقوبات وتعزيز اقتصادها.
مشكلة التقدير الإسرائيلي أنه يخلط بين الصعوبات الاقتصادية التي تتعرض وستتعرض لها إيران، والمفاعيل السياسية المفترضة. فالمسافة بين الحدين طويلة جداً، ومرهونة بالكثير من العوامل الأخرى. وتستند هذه التقديرات الاسرائيلية الى فرضية أنه في حال وجد النظام الاسلامي نفسه بين خيارين، إما البقاء عبر التنازل عن خياراته الاستراتيجية أو الانهيار بفعل تصلّبه، فمن الطبيعي أن يختار الأول.
ويستأنسون في هذا التقدير الى محطات مشابهة عندما وافقت على وقف الحرب مع العراق في عام 1988. لكن مشكلة هذه المقارنة أنها تتجاهل حقيقة أن إيران اليوم تختلف عن إيران في تلك المرحلة وما بعدها أيضاً، «بعد السماء عن الأرض»، كما أكد المرشد السيد علي الخامنئي، وبكافة المعايير الاقتصادية والعسكرية والعلمية والسياسية والإقليمية.
في كل الأحوال، ليس أمام تل أبيب، بعد فشل كل الرهانات والمخططات السابقة، سوى الرهان على العقوبات الاقتصادية الأميركية، وليس أمامها أيضاً سوى الترويج لجدوى هذا الخيار، أياً كان حجمها، سواء كانت تل أبيب مقتنعة بأنها ستؤدي إلى إسقاط النظام أو تنازله، كما تأمل الاستخبارات العسكرية، أو على الأقل أن تؤدي إلى إبطاء تقدمها الاقتصادي والعسكري والعلمي. لأن البديل منها (الجدوى المؤمَّلة) إما انتصار إيراني جديد، ستكون له تداعياته الاستراتيجية على المنطقة وعلى الأمن القومي الإسرائيلي، أو تورط عسكري أميركي واسع ومباشر ضد إيران، وهو سيناريو مكلف جداً لجميع الأطراف، وسعت واشنطن من قبل وما زالت إلى تجنّبه، لما ينطوي عليه من مخاطر وقيود، ولإدراكها أنه ستكون له عواقب خطيرة جداً على المصالح الأميركية وعلى الاقتصاد العالمي.