طهران | بعد يوم على إحياء ذكرى اقتحام السفارة الأميركية في طهران في العام 1981، تدخل الدفعة الثانية من العقوبات الأميركية على إيران حيّز التنفيذ. خلافاً لتوقعات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، لم تحقق الدفعة الأولى مكاسب مهمة، بل على العكس أدت إلى المزيد من التضامن بين الشعب والنظام وتوحيد الصفوف في الداخل، خصوصاً بين التيارين الرئيسيين، الإصلاحي والمحافظ. وما يؤكد صحة هذا الادعاء هو عدم اندلاع أي تظاهرة شعبية ضد النظام ولا ضد الحكومة طيلة تلك الشهور الثلاثة التي مضت على إعادة الحزمة الأولى، وبالتأكيد لن تندلع بعد اليوم. ما يعني أن الرئيس ترامب يخدم النظام الإيراني أكثر مما يضره، في حين إنه كان يتمنى بأن تلك العقوبات تهز أركان النظام وتثير الشعب ضده لتؤدي في النهاية إلى إسقاطه.وبعد أن غرّد ترامب، الجمعة الماضي، على حسابه في «تويتر»: «العقوبات مقبلة»، لم تتأثر السوق الإيرانية ولم ترتفع أسعار العملة الصعبة أمام العملة المحلية، وحتى بورصة طهران شهدت انتعاشاً يوم السبت الماضي، ما يعني أن الحديث عن تأثير العقوبات الأميركية هو حديث عن الماضي وليس المستقبل، وأن ثمار تلك العقوبات قد أُكلت مسبقاً. ووفق المقولة الشهيرة، فإن الضربة إذا لم تكن قاضية فإنها تزيد المناعة. وعلى رغم أن حكومة الرئيس حسن روحاني كانت قلقة جداً عند إعلان ترامب انسحاب بلاده من الاتفاق النووي على تأثير هذا القرار على الاقتصاد ــ وفعلاً كان لهذا لقرار تأثيرات سلبية ــ فإن هناك فوائد كبيرة أيضاً تترتب على هذا القرار، اقتصادياً وسياسياً. وأهمها الاتجاه إلى الذات وانتعاش الصناعات الداخلية بمختلف قطاعاتها، نتيجة خفض الواردات وتوفير فرص ذهبية لتصدير المنتوجات إلى الخارج نتيجة هبوط العملة خلال الأشهر الماضية، على غرار الاقتصاد الصيني، وتضامن الشعب مع النظام، وتغلب النظام على أزمة الشرعية، ووراء ذلك إثبات مصداقية موقفه من الولايات المتحدة طيلة أربعة عقود.
أدت العقوبات إلى المزيد من التضامن بين الشعب والنظام


وأما المكاسب الدولية التي حققها النظام بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق فحدث ولا حرج. أولاً، الهزيمة الأخلاقية التي تلقتها إدارة ترامب لا يستهان بها، إذ حاول إقناع المجتمع الدولي بأن إيران خرقت الاتفاق، وبناء على ذلك لم يعد الاتفاق ساري المفعول، ليحمّل تكاليف إلغائه على إيران نفسها. ولما أكدت الوكالة الدولية للطاقة الذرية على التزام إيران بتعهداتها، قال ترامب إن هذا الاتفاق سيء التزمت به إيران أم لم تلتزم، وطالب بانسحاب حلفائه الأوروبيين، لكن لم يرافقه أحد. كما أن الهزيمة القانونية القضائية الدولية التي تلقتها أميركا في محكمة لاهاي، عبر الحكم على الولايات المتحدة برفع كل العراقيل التي تفرضها الإجراءات التي أعلنت في 8 أيار/ مايو الماضي على حرية تصدير الأدوية والمواد الطبية ومواد غذائية ومنتجات زراعية وسلع مطلوبة لاحتياجات إنسانية ومنها قطع غيار الطائرات، كانت هزيمة قاسية. ثم تحوّل الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/ سبتمبر الماضي إلى مسرح لإخفاق ترامب في حرف الأنظار إلى قضية إيران النووية. وما كان يزعج الأميركيين خلال الاجتماع هو أن إيران ظهرت بمظهر دولة منضبطة وملتزمة، وهي التي كانت تتحدث عن الالتزام بالمواثيق والاتفاقات الدولية واحترام القرارات الدولية، بينما الولايات المتحدة تخرق تعهداتها وقراراتها وتعاقب الآخرين على التزامهم.
وأما لناحية تنفيذ العقوبات النفطية، فإن الفشل الذريع الذي سيلحق بالولايات المتحدة يكمن في العلاقة الوثيقة بين خفض صادرات إيران من النفط الخام وبين ارتفاع أسعارها، ما يدفع بالولايات المتحدة إلى الانسحاب من قرارها السابق بمنع جميع دول العالم من شراء النفط الإيراني، وإعفاء ثماني دول. فضلاً عن أن من المستحيل وقف صادرات إيران النفطية بشكل كامل، حيث ليس هناك من يملأ هذا الفراغ، لا السعودية ولا روسيا، المشكلة لا تقتصر على حجم الخام الإيراني، بل على مواصفاته أيضاً. فالمصافي التي اعتادت على نفط إيران، لا يمكنها استبداله بغيره بين عشية وضحاها. وأما على المدى المتوسط والبعيد، فإن العلاقات الاستراتيجية بين إيران وكل من الهند والصين وتركيا تجعل من الصعب قطع علاقاتها الاقتصادية بشكل كامل. الهند تحتاج إلى إيران كمصدر للنفط، وأيضاً كطريق استراتيجي للوصول إلى أفغانستان. ومن أجل ذلك استثمرت في ميناء شابهار عشرات الملايين من الدولارات، وتعرف واشنطن جيداً أن قطع العلاقة بين الهند وأفغانستان تصب في مصلحة باكستان، وهذا ما يعجب الولايات المتحدة.
والأهم، دول الاتحاد الأوروبي، خصوصاً فرنسا وألمانيا وبريطانيا، التي تحرص على إبقاء الاتفاق النووي، ووفّرت قناة للتواصل المالي بدلاً من شبكة «سويفت» التي هددها وزير الخزانة الأميركي بالعقوبة. وتشغيل شبكة «أس. بي. واي.» التي صممها الاتحاد الأوروبي للتعويض عن «سويفت»، سيفتح لإيران قناة للتبادل المالي بحال إغلاق الثانية في وجهها. ومن المرجح أنه سوف لن تقتصر مفاعيلها على التبادل المالي مع إيران، وحتى الهند والصين وروسيا سيتمكنون من استخدامها في التعامل مع إيران وفي ما بينهم. وأكثر من ذلك، فإن تلك القناة تفتح مجالاً لأوروبا لتقوية اليورو أمام الدولار. استعادت إيران ثقتها في الفترة ما بين الدفعتين من العقوبات، وربما ستشجع تلك الخبرة أوروبا على الصمود أمام الغطرسة الأميركية. فهل تستعيد أوروبا ثقتها بالنفس وتصمم على تحرير نفسها من ثقل الولايات المتحدة، كما أشار وزير الاقتصاد الفرنسي برونو لوميير، الذي يرى في إعادة العقوبات فرصة لبناء مؤسسات مالية سيادية يتمكن بموجبها الاتحاد الأوروبي من ممارسة التجارة التي يريدها من دون إملاءات خارجية.