برازيليا | لا شيء لإخفائه هنا. عاد العسكر، أو رموزه على الأقل، يحتفلون بالانتصار في ساحة بارا دا تيجوكا في ريو دي جانيرو، حيث لم يعد ثمة خوف من «الذاكرة». إنه انتصار على «التاريخ» بعد أكثر من 30 عاماً من تجربة الانعتاق من ديكتاتورية العسكر ومآسيها. أثبتت البرازيل في هذه الانتخابات أنها ليست استثناءً على تسونامي الموجات الشعبوية. على أن البلاد بدت منذ أمس أمام أخطر تجارب اليمين المتطرف، حيث العسكري السابق الفائز جايير بولسنارو، عاقد العزم على القطيعة مع الماضي بما حمل، على عكس أولى خسارات اليسار مع ميشال تامر. هكذا ينحسر النقاش حول مستقبل حكومة عتيدة متخمة بالمتطرفين العديمي الخبرة في الحكم، لحساب أي برازيل ستكون وبأي نظام سياسي واجتماعي واقتصادي، الأدهى أن المسؤول عن المستقبل بالدرجة الأولى سيكون تجارب «حزب العمال» اليساري وأسلاف فرناندو حداد.اعتقد الكاتب البرازيلي الشهير ألويزيو بالمار، وهو يعد مؤلفه «أين دفنوا موتانا»، أن حقبة الدكتاتورية قد ولت إلى غير رجعة، وأن الناس ستتذكر أيام الفاشية كعبرة تتناقل إلى الأجيال القادمة. لم يكن بالمار ليظن أن ذاكرة الجماعة قصيرة المدى، وأن حكم العسكر لا يعود بالضرورة من خلال انقلاب عسكري، بل أحياناً بتصويت جماهيري مُرفَق باحتفالات ورقصات وألعاب نارية. حاول الكاتب، الذي ما زالت آثار التعذيب تظهر على بقايا جسده المتعب، أن يوقظ وجدان شعبه قبل أيام من تاريخ الجولة الانتخابية الثانية، لكن رسائله المتكررة على صفحته الخاصة لم تحاك فكرة «الانتقام» التي تملكت عقول أغلبية البرازيليين؛ انتقام من مفاهيم الثورة والاشتراكية وحتى الحرية، وردوا عليه نداء «الاستغاثة» بنثر الورود على عربات الجيش التي اخترقت صفوف المحتفلين.
لم يكترث الـ57 مليوناً لتأويل خطابات العسكري المتمرد جايير بولسنارو، ولا لعنصريته المتمادية ضد نظرائهم السابقين في الوطن، ولا لتمجيده حقبة الدكتاتورية التي يذكر الجيل الخمسيني وما فوق مآسيها جيداً. واللافت أن سيدات البرازيل وافقن على مبدأ مفاضلة الرجال على أمل أن يعشن بأمان ويجدن لأولادهن فرصة عمل تقيهم الجوع والمرض. هكذا كانت نتيجة الانتخابات الرئاسية، مقايضة العيش بالحرية، والأمن بالديمقراطية، ووقف الهدر والفساد المستشري بالعودة إلى زمن العبودية. واقع يستوجب فتح جردة الحساب، عن كل مسؤول أوصل شعباً طيباً بالأصالة إلى لعبة «الانتحار». ليس صحيحاً أن البرازيليين هم يمينيون متطرفون، وليسوا أصدقاء الأميركيين والإسرائيليين، ولم يكونوا يوماً معادين لفلسطين وشعبها، لكن العوز والجريمة والمرض أصابت ما تبقى من إيمانهم بوطن التعددية والشراكة، حتى باتت هذه المصطلحات ثقيلة على قلوبهم فضلاً عن ألسنتهم. فلتكن جردة الحساب قاسية بحجم ما اقتُرف بحق وطن وشعب أعطى من دون تردد، وعندما قرر سحب هذا التوكيل وهبه لجلاده الذي كان متربصاً على أعتاب ألمه وانعدام ثقته بالطبقة السياسية التي أفسدت إيمانه وشغفه بالحياة.
كرّر في خطاب فوزه لغة الوعيد لليسار ونيته تغيير وجه البرازيل وهويتها السياسية


لم يكن انتخاب المتطرف جايير بولسنارو إلا ردّ فعل على استهتار الحكومات المتعاقبة. استهتار أقرّ به مرشح «حزب العمال» فرناندو حداد، الذي حاول أن يكفّر عن أخطاء حزبه، واعداً بإعادة الزمن 16 عاماً إلى الوراء، زمن الإنجازات التي حققها زعيمه المسجون لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، وتمثلت في نشل ثلث شعبه من الجوع، فضلاً عن تأمين الطبابة والغذاء والتعليم. لكن تداعي هذه الإنجازات بفعل التفلت والفساد أصمّ آذان الناس وجعل حداد يحمل إرثاً ثقيلاً، مضافاً إليه خيانة الحلفاء والأقربين الذين فضلوا تصفية الحساب في ما بينهم على مواجهة الكارثة العاتية. تُرك فرناندو حداد لمصيره، وهو الرجل الذي جاب البلاد من أدناها إلى أقصاها يقرأ فعل الندامة بالنيابة عن حزبه. فشل الرجل في فرملة «تسونامي» التطرف، فلجأ إلى خطاب التكفير عن الذنب، واعداً كل من طاله تهديد «حاكم» البرازيل الجديد بالحماية والوقوف إلى جانبه، مؤكداً أنه وحزبه يحترمان اللعبة الديمقراطية، لكنهما سيبقيان ضمانة للقيم الوطنية المبنية على المساواة بين الناس وضمان عيشهم بكرامة وحرية.
على الجانب الآخر، لم ينعش الفوز قلب بولسنارو، فكرّر في خطاب فوزه لغة الوعيد لليسار ونيته تغيير وجه البرازيل وهويتها السياسية. أعاد الرئيس العتيد التذكير بحلفاء المستقبل: أميركا وإسرائيل، وفك التحالفات التي تربطه بدول «الشيوعية والتخلف»، حسب تعبيره، بالإشارة إلى منظمة «بريكس» التي تجمع بلاده مع الصين وروسيا والهند وجنوب أفريقيا، والانسحاب من التكتل الذي يضم أيضاً جيرانه: الباراغواي والأرجنتين والأوروغواي، وسيفتتح عهده الرئاسي بأخذ البركة من خلال أولى زياراته الخارجية إلى الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل. قطف اليمين المتطرف اللحظة بذكاء، وأسهم خصومه في تعبيد طريق القصر الرئاسي؛ فبولسنارو حصد 57 مليون صوت في بلد لا تصل فيه نسبة الأغنياء إلى ربع هذا الرقم. نتيجة تشي بأن الفقراء كانوا رافعة اليمين المتطرف، وأن قسماً من ذوي الأصول الأفريقية والمنحدرين من أصول عربية والسكان الأصليين أعطوا ثقتهم لمن وصفهم بالنفايات والتنابل وعديمي الفائدة، وشارك العماليون عبر إخفاقاتهم المتتالية في كبح الفساد وتراجعهم في تنفيذ الوعود التي أكسبتهم بيعة الناس أربع دورات متتالية. والأهم من هذا وذاك، استفاد اليمين المتطرف من تواطؤ بعض القضاء وترهّل القسم الآخر، فالمحاكم المعنية بالشؤون الانتخابية رضخت لابتزاز بولسنارو الذي هدّد بإشعال البلاد إن لم ترقه النتيجة.
أمعن اليمين المتطرف في التجاوزات والانتهاكات السابقة لعملية التصويت. قتل بعض مناصري مرشح «حزب العمال» فرناندو حداد، على أيدي مؤيدي بولسنارو. أمعن في نشر الأكاذيب التي طالت «حزب العمال» ومرشحه، وتحدى القرارات القضائية التي صادقت على وجوب حذفها لعدم مصداقيتها. أدخل إيران، وحزب الله، في حملته الانتخابية، واتهمهما بالعمل على اغتياله. وحين ارتفع صوت القضاء أمام حجم التجاوزات المناقضة للقوانين والأعراف الانتخابية، تلقّى الصفعة من نجل الرئيس العتيد إدواردو بولسنارو، الذي قال إن إقفال المحكمة الفدرالية العليا يحتاج إلى جندي واحد وعصا، وبالفعل قاد اليمين المتطرف انتصاره بالعصا وأخضع ما تبقى من مؤسسات كانت تشكل ضمانة البرازيل الوحيدة.
بالعودة إلى الكاتب بالمار، فإن خسارته لم تقتصر على عودة طاقم التعذيب إلى سدة الحكم، بل أبطلت نظرية عمل على إنجازها لسنوات طوال. فالكتاب تمحور أساساً على المطالبة بالبحث عن رفاة شركاء النضال الذين قتلوا تحت التعذيب إبان الحكم العسكري وأخفيت جثامينهم في السبعينيات من القرن الفائت، وإعادة فتح ملفات محاكمة الجنرالات المتورطين. مهمة قد لا تكون على قدر من الأهمية في وقت تتهيّأ فيه البرازيل لتكرار أسوأ حقبة في تاريخها، حينها لا بد لبالمار أن يعدّل في خطة البحث عن السابقين، وإطلاق رحلة نضال جديدة قد تقي ما تيسّر من اللاحقين.



متطرّفو أوروبا يحتفلون: طردوا اليسار!
هنّأ فرناندو حداد، منافس الرئيس الفائز جايير بولسنارو، الأخير بفوزه في الانتخابات، متمنياً له «النجاح». وانعكست أنباء فوز بولسنارو ارتفاعاً في بورصة ساو باولو بنسبة ثلاثة في المئة. دولياً، بدا القلق في تعليقات المهنئين بالانتخابات واضحاً على «الديمقراطية» وترسيخها في البرازيل. وطالب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الرئيس الجديد بضرورة احترام «المبادئ الديمقراطية». ودعاه الاتحاد الأوروبي إلى «ترسيخ الديمقراطية». أما الرئيس الأميركي دونالد ترامب، فسارع إلى تهنئة «صديق أميركا»، متمنياً «التقارب في المجالات التجارية والاقتصادية». وعلى هذا المنوال، رحبت زعيمة اليمين المتطرف في فرنسا مارين لوبن بفوز بولسنارو، وكذلك زعيم اليمين المتطرف في إيطاليا ماتيو سالفيني، الذي قال إن «المواطنين في البرازيل أيضا طردوا اليسار! أداء جيد للرئيس بولسنارو، والصداقة بين شعبينا وحكومتينا ستكون أقوى».
(أ ف ب)