من الوظائف التي تفخر إسرائيل بتقديمها للولايات المتحدة للتأكيد بأنها ما زالت ورقة قوة استراتيجية في يد هذه الأخيرة وليست عبئاً، كما بدأ بعض الخبراء والعسكريين السابقين الأميركيين بالقول، سراً أو علناً، بعد غزو العراق عام 2003، هي وضع خبراتها في شؤون المنطقة تحت تصرفها. لم يعد سراً أن فكرة تدمير الدولة العراقية وإعادة تأسيس نظام فيدرالي على قاعدة طائفية وإثنية، وكذلك أطروحة إعادة صياغة الشرق الأوسط على الأسس نفسها، كانت إسرائيلية المصدر، تولى المحافظون الجدد، وهم في غالبيتهم مجموعة من الصهاينة المتطرفين، الترويج لها ومحاولة وضعها موضع التنفيذ في عهد جورج بوش الابن. يبدو أن إدارة الرئيس دونالد ترامب، عادت لاستلهام الأفكار الإسرائيلية، لكن هذه المرة ضد إيران. فمنذ إعلان وزير خارجيتها مايك بومبيو، عن تشكيل مجموعة العمل حول إيران في 16 آب الماضي، ازدادت بشكل ملحوظ الهجمات والأنشطة المعادية للجمهورية الإسلامية المنسوبة لحركات انفصالية كردية أو عربية، يجهر قادتها بنيتهم بناء تحالف أقليات ضدها. ومن الواضح أن هذا التوجه يحظى بدعم ورعاية الفريق الذي عمل في مركز دراسات اللوبي الإسرائيلي في أميركا (معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى)، قبل الانتقال إلى الإدارة، والذي يضم إلى مستشار الأمن القومي جون بولتون، جيمس جيفري، الممثل الخاص للولايات المتحدة حول سوريا، ودايفيد شنكر، نائب وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط، وأندرو تابلر، مسؤول الملف السوري في مجلس الأمن القومي.
«الطليعة الكردية»
يعتبر أنصار استخدام ورقة الأقليات القومية ضد طهران أن الطرف الأكثر قدرة على شن هجمات عسكرية فعالة في إيران لامتلاكه قاعدة خلفية في العراق سمحت له بالحفاظ على حد أدنى من البنى التنظيمية والعسكرية هو الطرف الكردي. غاية هذه الهجمات، التي تستهدف كل ما يرمز للدولة، وأبرزها جيشها العقائدي، الحرس الثوري، هو ضرب هيبتها وتحفيز المجموعات الانفصالية الأخرى على التحرك. يناط بالطرف الكردي دور طليعي من أجل إثارة وتأجيج صراعات إثنية في إيران. وقد بدأ الإعلام الإسرائيلي بتغطية العمليات العسكرية للمجموعات الكردية ليشجع الإعلام الغربي على القيام بالأمر عينه، كجزء من الدعم لهذه المجموعات ومن تسويق دورها كورقة ضغط ناجعة ضد إيران. صحيفة «جيروزاليم بوست» نشرت في العاشر من الشهر الجاري تقريراً دعائياً بكل ما للكلمة من معنى لزاك هوف، وهو خبير في الشؤون الكردية وخبير ميداني لـ«مركز الشرق الأوسط للإعلام والتحليل»، الذي تسلل مع مجموعة من المقاتلين الأكراد إلى الأراضي الإيرانية من «كردستان» العراق. يعتبر هوف أن «الحزب الديموقراطي الكردستاني» الإيراني وبقية الحركات الكردية في إيران، كـ«بيجاك» و«حزب الحرية» الكردستاني و«كومله»، هي في مقدم القوى التي تستطيع واشنطن الاعتماد عليها في مواجهتها مع طهران. وبعد تعداده بحماسة لعدد الهجمات التي شنتها هذه الأطراف وحديثه العاطفي عن الشباب الأكراد، وبخاصة الشابات، الذين ينضمون بكثافة لها للقتال «من أجل الحرية»، وهو كلام موجه للرأي العام الغربي يحاول الاستفادة من موجة التعاطف الواسعة التي حظيت بها «قوات سوريا الديموقراطية» في الغرب لأنها، بين أسباب أخرى، «حررت النساء» عبر ضمهم إلى وحداتها العسكرية خلال قتالها لـ«داعش»، يقدم هوف توصيات لواشنطن حول السياسة الأجدى الواجب اعتمادها حيال الملف الكردي في إيران. هو يرى أن «التمهيد لسياسة ناجحة تجاه إيران يتطلب من أميركا تعزيزاً لدور الأحزاب الكردية الإيرانية والعمل على حل الخلافات في ما بينها ومساعدتها على التوحد ضد النظام. لكن الدعم الجدي يتجاوز تنظيم المصالحات وبناء إطار تنسيق أمني. فالمجموعات العسكرية الكردية تفتقد الدعم اللوجستي والتجهيزات والتمويل والتدريب المتقدّم لتستطيع تطوير أدائها الميداني... تسريع عملية تفكك الطغيان في إيران انطلاقاً من خطوط الصدع المحلية الإثنية والدينية، يسمح بحقن الدماء التي تسفك في الحروب بالوكالة المشتعلة في العراق وسوريا واليمن... اللاعبون الإقليميون المعنيون كالسعودية والأردن والبحرين عليهم أن يأخذوا في الاعتبار الفوائد الكبرى التي سيجنونها من دعم بداية تمرد الأكراد في إيران وهم يخوضون معها مواجهات مفتوحة في اليمن وسوريا البعيدتين عن حدودها والمجاورتين لحدودهم... لدى واشنطن فرصة استثنائية لمساعدة حلفاء في إيران يشاطرونها مصالحها وقيمها ولديهم نفس الأعداء. مساندة المجموعات الكردية يجب أن تكون من ضمن استراتيجية حاسمة لاحتواء إيران ودحرها». يلخص هذا المقال المقاربة الإسرائيلية لواقع الصراع مع إيران اليوم. استحالة المواجهة العسكرية المباشرة معها لأثمانها الباهظة على الكيان ولعدم رغبة واشنطن في الدخول في مثل هذه المواجهة تغلب خيار الحرب بالوكالة، لكن الحرب الساخنة التي تؤدي إلى تفككها «بحسب خطوط الصدع المحلية الإثنية والدينية»، بحسب ما ورد في المقال المذكور أعلاه. لا يستطيع الخيال الإسرائيلي إلا إعادة إنتاج سيناريوات هي عبارة عن تنويعات على نغمة «فرّق تسد» الاستعمارية التقليدية. لكن هذا الكلام برسم دول وشعوب المنطقة التي ما زالت تعاني من آثار إشعال الحرب الطائفية وتأجيجها من قبل الولايات المتحدة في العراق. هل سيكون العراق وتركيا وسوريا بمنأى عن التداعيات الخطيرة لاستغلال أميركا للورقة الكردية في إيران؟ هل يعتقد عاقل أن إيران ستقف متفرجة على استخدام «كردستان» العراق كقاعدة خلفية لحرب هدفها المعلن تقسيمها؟ يبدو أن ضمور الهيمنة الأميركية على المنطقة يدفع واشنطن إلى اعتماد سياسة إشعال الحرائق والخراب، لكن من المحسوم أنها ليست الطرف الوحيد القادر على التحكم بالحرائق أو بحصرها في بلد واحد، في إقليم قابل برمته للاشتعال.