التطور النوعي في العلاقات الروسية ــ الصينية يثير قلقاً متزايداً في عواصم الغرب. وقد ظهر هذا القلق جلياً في تعليقات أجهزة الدعاية الإعلامية والخبراء والمسؤولين السابقين على مناورات «فوستوك 2018» العسكرية الضخمة التي شارك فيها، إلى جانب 300 ألف من عديد القوات الروسية، 3200 من القوات الصينية وقوات من منغوليا أيضاً. وللتذكير، هذه المناورات ليست الأولى المشتركة بين قوات روسية وصينية. فقد سبقتها في السنوات الماضية ثلاث مناورات بحرية مشتركة في بحر البلطيق وبحر المتوسط وبحر الصين الجنوبي. الفارق طبعاً هو حجم المناورات الأخيرة التي ضمّت، إضافة للأعداد الكبيرة من القوات، آلاف الطائرات والمدرعات، وهو السياق العام الذي يندرج ضمن سياق تعاون وثيق روسي ــ صيني في مجالات شتى، سياسية وعسكرية واقتصادية وعلمية وتكنولوجية. الهواجس والمخاوف التي أيقظها التعاون لم تمنع المعلّقين الغربيين من اللجوء إلى التفكير الرغبوي للتأكيد أنه لن يصل إلى مرتبة التحالف الاستراتيجي الذي يهدد الهيمنة الغربية على العالم، المتداعية في الحقيقة. هو «تقاطع مصالح»، «تواطؤ»، أو حتى ربما «شراكة»، لكنه ليس تحالفاً استراتيجياً. يستحضر هؤلاء جميع العوامل التي من شأنها الحؤول دونه، من الخلافات الحدودية والصراعات التاريخية بين البلدين، إلى الفارق الهائل بين وزنَيهما الاقتصاديين، والخوف الروسي من السقوط في أسر التبعية للصين، مروراً بصراع محتمل على النفوذ في آسيا الوسطى، المنطقة الحيوية بالنسبة إليهما. تتناسى هذه التحليلات الدوافع العميقة التي حدت بالبلدين، منذ حوالي العقدين، إلى التقارب، فالتعاون، ومن ثم إلى بناء شراكة استراتيجية مُرشَّحة للتحول إلى تحالف متين في مواجهة السياسات الأميركية والأطلسية المعادية لهما، والتي تشكل أول وأبرز هذه الدوافع. لم ينصت القادة الغربيون جيداً إلى النصيحة التي أسداها إليهم وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، خلال «مؤتمر الأمن والتعاون» في ميونيخ عام 2017، عندما دعاهم إلى تقبل الانتقال نحو ما سمّاه «عالم ما بعد الغرب»، وسيحمل لهم إصرارهم على المضي في السياسات نفسها العديد من المفاجآت غير السارّة في المديين القريب والمتوسط.

رد على «الاحتواء المزدوج»
في مقال بعنوان معبّر: «عندما كانت روسيا تحلم بأوروبا»، كتبت هيلين ريشار في العدد الأخير من شهرية «لوموند ديبلوماتيك» أن مسار أندري بوشكوف، عضو مجلس الشيوخ والرئيس الأسبق للجنة العلاقات الخارجية في الدوما، والأهم أنه كان كاتب خطابات الرئيس ميخائيل غورباتشوف وبات اليوم من أشد الأنصار حماسة للرئيس فلاديمير بوتين، يختصر مسار روسيا في العقود الأخيرة: «السيد غورباتشوف أَمِل بعودة بلده إلى العائلة الكبيرة للأمم الأوروبية. هو شكّل استمرارية لتيارات التغريب التي سعت منذ بطرس الأكبر (1682-1725) لربط روسيا بأوروبا على عكس تيار الرابطة السلافية الذي دافع عن ضرورة بناء نموذج خاص بروسيا. وفي نهاية الثمانينات، ساد اعتقاد أننا أمام مخاض ولادة نظام دولي متحرر من منطق المحاور. يصعب فهم سلوك روسيا الحالي من دون استذكار فشل حلمها الأوروبي المذكور». استمرت سياسة التطويق والاحتواء ضد روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، عبر توسيع «الناتو» شرقاً، ومحاولة ضمّ جورجيا وأوكرانيا إليه للوصول إلى حدودها، وعبر نشر بطاريات منظومات الدفاع المضادة للصواريخ حولها بهدف حرمانها من القدرة على الرد الصاروخي في حال تعرّضها لضربة نووية أولى. غاية «الأطلسي» التي لا تحمل أي التباس هي الإخلال بالتوازن الاستراتيجي العالمي الذي قام على قاعدة الردع النووي المتبادل. وقد جاء إعلان الإدارة الأميركية، في استراتيجية الأمن القومي واستراتيجية الدفاع الوطني والوثيقة النووية، عن أولوية مواجهة روسيا والصين باعتبارهما «قوتين تحريفيتين تعملان على تقويض النظام الدولي الليبرالي» بحسب الوثائق المشار إليها، ليفصح عن تغيير رسمي في الاستراتيجية العامة المعلنة للولايات المتحدة، التي سبق أن أكدت لأكثر من عقد ونصف عقد أن الحرب على «الإرهاب» ومنظماته هي أولويتها.
ما ينطبق على روسيا ينطبق على الصين و«حلمها الأميركي». لقد ظنّ تيار وازن داخل قيادة الحزب الشيوعي الصيني أن الشراكة الاستراتيجية التي جمعت بين الصين ودول الغرب، منذ بداية سبعينيات القرن الماضي ضد الاتحاد السوفياتي وبقيت حتى سقوطه، من الممكن أن تستمر بعد هذا السقوط، خصوصاً بعد نمو كتلة مصالح ضخمة بينهما عزّزتها العولمة الاقتصادية والمالية. أضف إلى ذلك أن أجيالاً من الصينيين الذين درسوا في الولايات المتحدة ودول الغرب، عادوا بعدها إلى بلادهم غربيي الهوى، ليحتلّوا مناصب مؤثرة داخل مؤسسات الدولة أو في الشركات الاقتصادية والمالية. تيار آخر داخل قيادة الحزب الشيوعي كان مدركاً أن استمرار صعود الصين الاقتصادي والسياسي سيفضي بالضرورة إلى مواجهة مع الولايات المتحدة، لكنه رأى أن مصلحة الصين تقتضي تأخيرها قدر المستطاع. لكن التوجهات الأميركية المعادية للصين، التي اتضحت منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي عندما بات 50 في المئة من الانتشار العسكري الأميركي خارج الولايات المتحدة في منطقة آسيا ــ المحيط الهادئ، أي في جوار الصين، والتي حوّلها الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما إلى سياسة معلنة عبر حديثه عن «الاستدارة نحو آسيا»، خيّبت آمال المراهنين على إمكانية استمرار شهر العسل المديد مع أميركا أو تأخير المواجهة معها. وقد حسم وصول ترامب إلى السلطة، وشنّه لحرب تجارية على الصين، الموقف لمصلحة الداعين إلى المزيد من التصلب في هذه المواجهة.
مناورات «فوستوك 2018» هي بلا أدنى شك رسالة مُوجَّهة لحلف «الناتو» كما صرّح ناطق باسم الكرملين، أشار إلى أنها تأتي بعد تتالي مناورات «الناتو». وهي رد مباشر على سياسة «الاحتواء المزدوج» التي يعتمدها حيال البلدين، مع أن عدداً معتبراً من الخبراء الاستراتيجيين والمسؤولين السابقين، من أمثال زبغنيو بريجينسكي وبرنت سكوكروفت وريتشارد هاس وآخرين، كانوا قد حذروا من مغبة استعدائهما معاً لأنه سيدفعهما حتماً إلى أحضان بعضهما البعض ما يضاعف من صعوبة شروط المواجهة بالنسبة إلى الولايات المتحدة. غطرسة القوة دفعت الإدارات الأميركية المتعاقبة إلى عدم الاكتراث بالتحذيرات. لقد سمحت المناورات باستعراض القوة العسكرية الروسية، التي استثمر فيها فلاديمير بوتين بشكل مكثف منذ وصوله إلى السلطة وطوّر قدراتها نوعياً. يتيح هذا الأمر لروسيا فرصة لكي تقدم نفسها لدول آسيا الوسطى باعتبارها الطرف القادر على حمايتها من التهديدات الداخلية والخارجية، وهي سياسة تحظى بموافقة الصين التي توصّلت مع روسيا في هذه البلدان إلى نوع من تقسيم المهام تتكفّل فيه الأخيرة بالأبعاد العسكرية والأمنية، بينما تركز الصين على الأبعاد الاقتصادية والمالية وتلك المرتبطة بالبنى التحتية.
عند تناوله للعلاقات الروسية ــ الصينية، قال الرئيس فلاديمير بوتين إنها أكثر ما تشبه المبنى الذي يضاف إليه عدة طوابق كل سنة. لقد أصبحت روسيا هي المصدر الأول للطاقة بالنسبة إلى الصين، التي أضحت من جهتها المستثمر الخارجي الأول في روسيا. ويشمل التعاون بين البلدين مجالات التكنولوجيا المتطورة بما فيها تلك العسكرية. شبكة مصالح ضخمة بينهما تنمو بشكل مطّرد، وتهديدات مشتركة تتضح، خصوصاً في ظل وجود الإدارة الأميركية الحالية، قد تدفع بالشراكة الروسية ــ الصينية إلى مستويات يعجز التفكير الرغبوي الغربي عن توقعها.