لندن | في أول إشارة إلى تصاعد غضب الإكوادوريين الفقراء من سياسات الرئيس لينين مورينو النيوليبرالية، والساعية إلى إعادة البلاد إلى حظيرة النفوذ الأميركي بعد عقد من حكم اليسار، شهدت العاصمة كويتو، الخميس الماضي، تظاهرة شعبية واسعة شارك فيها الآلاف، مُعبّرين عن رفضهم مجمل سياسات مورينو المنحازة بلا تحفظ إلى مصالح الرأسمالية العالمية. وعلى رغم أن الشرطة المحلية قلّلت من قيمة التظاهرة وأعداد المشاركين فيها، فإن وجوداً ملحوظاً لمواطنين عاديين، ليس من المألوف انخراطهم في الأنشطة السياسية، أعطى إشارة مهمة إلى أن تراكماً كمّياً ملموساً من الغضب الشعبي أخذ بالتبلور على الأرض ضد ثورة مضادة يقودها الرئيس مورينو، أطاحت خلال 16 شهراً فقط المكتسبات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي بناها الشعب الإكوادوري في عهد الرئيس السابق رافائيل كوريّا، وما سُمّي بثورة «تحالف المواطنين» الشعبية، سواء لناحية التعليم والصحة والتقديمات الاجتماعية للفئات المُهمّشة تاريخياً، أو لناحية بناء سيادة الإكوادور واستقلالها وتحالفاتها خارج منظومة الهيمنة الأميركية، وأقرب إلى دول الجنوب كالصين وكوبا وفنزويلا وبوليفيا.مورينو، الذي كان قد صعد إلى السلطة على أكتاف ناخبي اليسار وأنصار الثورة الشعبية في الانتخابات الرئاسية في نيسان/ أبريل 2017، على أساس برنامج سياسي ــــ اقتصادي ــــ اجتماعي يقوم على الاستمرارية في نهج الرئيس كوريّا التقدمي، لم يوفر وقتاً منذ لحظة تولّيه مفاتيح قصر الكارونديليه الرئاسي لينفّذ انقلاباً تاماً على مضمون ذلك البرنامج الانتخابي. إذ شرع، منذ فوزه، في سلسلة متلاحقة من الإجراءات، مدعوماً من أثرياء البلاد وعسكرييها السابقين الذين أفسدتهم أميركا، أهمّها إلغاء مفاعيل القوانين والتشريعات التي سنّتها الحكومة السابقة، واستبدالها بسياسات تقشّف نيوليبرالية وقحة، تلغي الضرائب وبأثر رجعي عن الأثرياء ومصالح الرأسمالية الكبرى والشركات الأجنبية، وتُقلّص التقديمات الاجتماعية للطبقة العاملة، وتعفي رأس المال الأجنبي من الرسوم لـ 15 عاماً، وتخصخص مؤسسات القطاع العام، مع رفع أسعار المواد الأساسية؛ بما فيها المحروقات إلى مستويات غير مسبوقة.
توازت مفاعيل هذا الانقلاب المضاد على ثورة الإكوادور الشعبية مع هرولة نظام مورينو إلى استعادة النفوذ الأميركي، بعدما كان الرئيس كوريّا قد أغلق القاعدة العسكرية الجوية الأميركية، وأوقف العمل بكل مكاتب التنسيق والتمثيل الأمني والعسكري الأميركية على الأراضي الإكوادورية، وهي المكاتب التي كانت تستخدمها الاستخبارات الأميركية على نطاق واسع ضد اليسار الكولومبي المسلح، ونظام الرئيس هوغو تشافيز في فنزويلا. وهكذا، سمح مورينو لمكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي بالوجود على الحدود مع كولومبيا، بحجّة مكافحة تجارة المخدرات، وهي نكتة باتت سمجة في أميركا اللاتينية، بعدما كشفت الأحداث عبر العقود أن الأجهزة الأمنية الأميركية ترعى أنشطة كارتيلات المخدرات وتحميها، ما دامت ملتزمة بتجارة السموم المربحة من دون التورط في نضال شعبي ضد هيمنة واشنطن على شعوب الجنوب. كما استغلّ مناسبة زيارة نائب الرئيس الأميركي، مايك بينس، لكويتو، ليعلن إعادة فتح مكتب التنسيق الأمني الأميركي ــــ الإكوادوري، الذي كان الرئيس كوريّا قد أغلقه في عام 2014.
هذه الانحناءة أمام «الإمبراطورية الأميركية» رافقتها سياسات غايتها تقديم مزيد من أوراق الاعتماد إلى واشنطن، سواء من خلال طرد سفراء كوبا وفنزويلا، أو التضييق على الصين المستثمر الرئيسي في البلاد، أو التخلي عن دعم حقوق الفلسطينيين مقابل إيفاد وزيرة الخارجية للاجتماع برئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، والتوافق على تدفئة العلاقات مع الدولة العبرية بعد عشر سنوات من البرودة. ولعلّ أكثر تلك المبادرات المجانية «رمزية» كان قطع خدمة الإنترنت عن جوليان أسانج، مؤسس موقع «ويكيليكس»، المحتمي من السلطات الأميركية داخل حرم السفارة الإكوادورية في لندن، والذي كان الرئيس السابق قد قبل لجوءه السياسي للسفارة، ومَنَحَه جواز سفر إكوادورياً في ما اعتُبر وقتها بمثابة إعلان قيام جمهورية مستقلة لأول مرة في تاريخ الإكوادور. ويعتقد المراقبون اليوم أن مسألة تسليم أسانج لواشنطن على يد نظام مورينو باتت مسألة وقت لا أكثر، ما يعكس حجم الردّة عن منجزات الثورة الشعبية.
مورينو، الذي وصفه الرئيس كوريّا بـ«يهوذا الخائن»، لم يكن له أن يصل إلى مقاليد السلطة لولا سوء التقدير من قِبَل تحالف القوى الوطنية واليسارية، الذي حكم البلاد طوال عقد كامل، وصنع ما يشبه معجزة اقتصادية واجتماعية، رغم تراجع أسعار النفط، والهزة الأرضية القوية التي ضربت البلاد قبل سنوات، وسيطرة اليمين الكومبرادوري الإكوادوري على إعلام البلاد ومفاصل الاقتصاد. فالرئيس السابق، الذي بدأ حياته السياسية أستاذاً جامعياً في الاقتصاد، شابٌ أراد كسر معادلة إعادة إنتاج الفقر في بلاده، وتحقيق نوع من العدالة الاجتماعية من خلال تولي المنصب التنفيذي الأهم في البلاد، لكنه قرر بعد عشر سنوات أن لا يترشح مجدداً، وأن يقدم للإكوادوريين نموذجاً تاريخياً في النزاهة والترفّع عن المناصب. وقد وقع اليسار في خطأ تقدير استراتيجي عندما وجد في لينين مورينو، الممثل الموهوب في دور تلميذ كوريّا المخلص، بديلاً ممكناً، على أساس أنه علماني النزعة قد يدعم أجندة التحرر الاجتماعي، التي كان سجل الرئيس كوريّا ــــ المائل إلى الكثلكة ــــ لا يوازي فيها التقدم الذي تم تحقيقه في المجالات الأخرى، ولا سيما في ما يتعلق بمسألة الإجهاض، إضافة إلى تصوّر مورينو أكثر مرونة في السياسة، ما قد يجعله نقطة تلاقٍ مع اليمين القوي في البلاد. وهكذا، صوّتت الكتلة الشعبية الموالية لكوريّا بكثافة لـ«يهوذا الخائن»، الذي انقلب من فوره على ناخبيه، وصار بتنازلاته المتسارعة نجم اليمين الصاعد، الذي لم يتأخّر بدوره عن دعم مورينو في البرلمان للاستمرار في السلطة، لحظة استقالة 32 مشرعاً من أنصار كوريّا احتجاجاً على سلوكه الانقلابي. وللحقيقة، فإن مورينو لم يَخدع إلا من أراد أن يُخدع؛ إذ إن «ويكيليكس» نشرت في عام 2010 وثيقة للسفيرة الأميركية في البلاد في عام 2007، تصف فيها مورينو بالجيد للمصالح الأميركية، كما أن بعض المثقفين اليساريين كانوا يرون في كوريّا اشتراكياً ناقصاً، ليس لديه الرغبة في تحطيم بعض التابوهات الاجتماعية.
اليسار والفقراء في الإكوادور في صراع مع الزمن لاستعادة ثورتهم المغدورة. إذ إن الأشهر الـ 16 الماضية كانت كفيلة بكشف كل الأوراق والمواقف، ولم تعد هنالك أوهام في ضرورة توحيد جهود القوى الوطنية والأممية لمواجهة حاسمة مع مورينو، الذي نجح بفضل تأييد اليمين في البرلمان باستصدار قوانين تجرّم الرئيس كوريّا، وتمنع أنصاره من تشكيل حزب سياسي جديد، ما يعني استحالة البدء بعملية سياسية بالاعتماد على نموذج النضال السياسي كما كان في الفترة ما قبل نيسان/ أبريل عام 2017، والحاجة إلى تحرك سريع لتنظيم جهود التشكيلات السياسية والاجتماعية القائمة قبل أن تُستهدف بالتفتيت. كما أن النفوذ الأميركي المتزايد قد يأخذ تموضعات عسكرية وأمنية لن يسهل اقتلاعها على المدى القريب.
تظاهرة الخميس الشعبية في كويتو قد تكون إشارة انطلاق لمعركة استعادة الإكوادور من حضن الإمبراطورية الأميركية الجشعة. معركة ستجرى فصولها في الوقت بدل الضائع، قبل وصول طلائع المارينز إلى قاعدتهم الجوية الأثيرة في مانتا، التي لم ولن يغفر الأميركيون للرئيس كوريّا أنه تجرأ وطردهم منها في يوم من الأيام.