«أنت تعلم أنّي أقوم بعمل رائع لهذا البلد... وتعلم أيضاً أنَّ حلف شمال الأطلسي سيدفع مليارات ومليارات إضافية... تعلم أنّي أسعى لعقد أكبر الصفقات التجارية على الإطلاق. البلد بألف خير، الاقتصاد بأفضل أحواله، البطالة في أدنى مستوياتها، والوضع أفضل من أيّ وقتٍ سبَق». يعرف دونالد ترامب أن يعدّد إنجازاته سريعاً حين يشعر بخطر مقبل نحوه. التبرير الآنف، حصل خلال مكالمة هاتفية بين الرئيس الأميركي والصحافي الاستقصائي بوب وودوارد، الذي شارك إلى جانب زمليه كارل برنستين في كشف فضيحة «ووترغيت»، التي انتهى أحد فصولها باستقالة ريتشارد نيكسون من منصبه الرئاسي في 1974، تجنباً لعزله.كان وودوارد قد أكمل مخطوطة كتابه الجديد، حين تلقّى اتصالاً هاتفياً من دونالد ترامب في الـ14 من آب/ أغسطس. محور الاتصال كان كتاب «خوف: ترامب في البيت الأبيض» المرتقب صدوره خلال أيام. وفقاً لتسجيل صوتي للمحادثة، يؤكّد وودوارد أنّه سعى لإجراء مقابلة مع ترامب من خلال العديد من الوسطاء، دون جدوى. لكن الرئيس الذي بدا ودوداً ومرحِّباً، مع علمه بأن الاتصال مسجّل، أكّد للكاتب أن أحداً لم يخبره بخصوص طلبه إلّا عرَضاً. وبعد تأكيد وودوارد أنّ العمل المنتظر سيكون «قاسياً»، اشتكى ترامب من أن الكتاب سيكون «سيئاً» كغيره من الكتب التي تحكي سيرته الرئاسيّة.
كما هو معلوم، يزخَر عهد الرئيس الحالي بالتسريبات والفضائح، التي تحوّل الكثير منها إلى مؤلّفات. وتجدر الإشارة هنا، إلى أنّ محور التسريبات، أي ترامب، ليس شخصية عادية، بل رئيس تمكّن، حتى الآن، من النجاة برئاسته، برغم العداء المتبادل بينه وبين كل من «المؤسسة» الحاكمة في واشنطن، والتيار «الليبرالي» الذي يدور في فلك الحزب الديموقراطي. من هنا، يمكن القول إنّ كتاب وودوارد يأتي استكمالاً لسيرة مشابهة قدّمها الكاتب والصحافي الأميركي، مايكل وولف، في كتابه «نار وغضب» بداية العام الحالي، متنبّئاً بأنّ المؤَلَّف «سينهي عهد ترامب».

«الخوف»
إنّ «القوة الحقيقية، لا أريد أن أستخدم ذلك المصطلح، لكنّها «الخوف»»؛ عبارة قالها ترامب في مقابلة أجراها مع صحافي «واشنطن بوست» روبرت كوستا في 2016، ومنها اقتُبس اسم الكتاب المتوقع صدوره في 11 أيلول/ سبتمبر.
الكتاب الذي يقع في 448 صفحة، وحصلت كلّ من «واشنطن بوست» و«سي إن إن» على نسخة منه، يقدّم صورة قاتمة من داخل المقرّ الرئاسي المختل وظيفياً، مستنداً إلى مئات الساعات من المقابلات المسجّلة، شملت عشرات المصادر من الدائرة المقربة من الرئيس، إلى جانب وثائق ومذكرات وملفات تتضمّن ملاحظات كتبها ترامب بخطّ يده.
يوثّق وودوارد، نقلاً عن مصادره، الكثير من العداوات والاشتباكات اليومية، ويشرح بالتفصيل كيف أنّ كبار المساعدين ــــــــ حاليين وسابقين ــــــــ باتوا يشعرون بقلق متزايد إزاء سلوك الرئيس المتقلّب و«جهله، وميله إلى الكذب».

«ورشة عمل الشيطان»
يحكي «خوف» عن فوضى البيت الأبيض. الفوضى تصل إلى حدّ «الانقلاب الإداري» و«الانهيار العصبي»؛ هناك حيث يسعى الموظّفون باستمرار للسيطرة على رئيس يمكن جنون الارتياب لديه وغضبه، خصوصاً بشأن التحقيق الروسي، أن يسبّبا توقّف العمل في الجناح الغربي لأيام.
الواضح بنظر وودوارد، أنّ الرعب يسيطر على ولاية الرئيس، وهو ما يؤدي إلى إرباك بعض الموظفين والوزراء بسبب عدم فهم الرئيس لعمل الحكومة وعدم رغبته في التعلّم، فضلاً عن افتقاده للفضول. «هذه ليست رئاسة. هذا شخص يتصرّف وفقاً لطبيعته»، يقول روب بورتر، نائب كبير الموظفين السابق.
كيلي: ترامب «معتوه» و«من غير المجدي محاولة إقناعه بأي شيء»


خلال اجتماع لمجلس الأمن القومي في 19 كانون الثاني/ يناير، سأل ترامب عن سبب احتفاظ الولايات المتحدة بوجود عسكري مُكلف في شبه الجزيرة الكورية، ليردّ عليه وزير الدفاع جيمس ماتيس، بـ«(أننا) نفعل ذلك من أجل منع حرب عالمية ثالثة». بعد مغادرة ترامب الاجتماع، يقول ماتيس لزملائه، إنّ درجة الفهم لدى ترامب موازية «لتلميذ في الصف الخامس أو السادس».
في حادثة أخرى، يذكر الكتاب أنّ كبير موظّفي البيت الأبيض، جون كيلي، قال لزملاء إنه يعتبر ترامب بمثابة «معتوه» و«أحمق»، و«من غير المجدي محاولة إقناعه بأي شيء. لقد انحرف عن السكة. نحن في عالم مجنون»... «لا أعرف حتى لماذا نحن هنا. إنها أسوأ وظيفة تقلّدتها».
أمّا رينس بريبوس، كبير الموظفين السابق الذي أقاله ترامب في تموز/ يوليو 2017، فكان دائم القلق من أنه لن يستطيع فعل الكثير لمنع ترامب من إثارة الفوضى. بحسب وودوارد، أطلق بريبوس على غرفة النوم الرئاسية، حيث يشاهد ترامب التلفزيون ويغرّد، «ورشة عمل الشيطان».
قلَّة من المحيطين بترامب سلموا من إهانات الرئيس. كان غالباً ما يسخر من مستشاره (السابق) للأمن القومي، اتش آر ماكماستر (أقاله في أيار/ مايو وعيّن جون بولتون مكانه)، محاولاً تقليده بنفخ صدره والمبالغة في طريقة تنفّسه بينما ينتحل شخصية الجنرال المتقاعد. وزير العدل (المدعي العام)، جيف سيشنر «الخائن»، وفق ما ينقل روب بورتر عن ترامب «مختلّ عقلياً. إنه جنوبيّ (من آلاباما) معتوه».
يكشف الكتاب تجاهل مساعدي الرئيس لأوامره بشكل دوري، أو سعيهم لمنع إصدارها. ويعطي مثالاً على ذلك غاري كوهين، الذي كان كبير المستشارين الاقتصاديين في البيت الأبيض، إذ سحب العام الماضي أمراً رئاسياً عن مكتب الرئيس كان في حال توقيعه سيلغي الاتفاق التجاري بين واشنطن وسيول. كذلك سعى كوهين لمنع ترامب من الانسحاب من اتفاق التبادل الحر لدول أميركا الشمالية «نافتا».

«فلنقتل الأسد»
في نيسان/ أبريل عام 2017، بعد الهجوم المفترض بالأسلحة الكيميائية على خان شيخون، كتب وودوارد أن ترامب طلب من ماتيس قتل الرئيس السوري بشار الأسد. وقال لماتيس: «فلنقتله، لنذهب إلى هناك ونقتل الكثير منهم». وافق وزير الدفاع، لكن بعدما وضع سماعة الهاتف، قال لأحد مساعديه إنّ الولايات المتحدة ستتّخذ خطوات «مدروسة أكثر» ضد سوريا، كانت على شكل غارات جوية. (نفى ترامب، أمس، رواية وودوارد عن كونه ناقش اغتيال الأسد العام الماضي).
ويروي مثلاً، أنه بعد مرور شهر على رئاسة ترامب، طلب الأخير من رئيس أركان القوات الأميركية الجنرال جوزف دانفورد، وضع خطّة لضربة عسكرية وقائية ضدّ كوريا الشمالية. كذلك، يصور الكتاب نفاد صبر ترامب من الحرب في أفغانستان، فاتحة حروب واشنطن في بداية القرن الحالي. خلال اجتماع لمجلس الأمن القومي في تموز/ يوليو 2017، خاطب ترامب جنرالاته ومساعديه لمدة 25 دقيقة، ليشكو من أن الولايات المتحدة تخسر في حربها ضدّ أفغانستان: «لا أعلم ماذا نفعل هناك؟ وإلى متى سنبقى هناك؟».

عزلة
يعيش البيت الأبيض، منذ أسابيع، حالة ترقّب مع اقتراب موعد صدور الكتاب. وردّاً على ما نشر منه، قال ترامب عبر «تويتر»، إن الاقتباسات الواردة فيه والمنسوبة إلى ماتيس وكيلي، هي «حيل مختلقة، وخداع للجمهور»، معتبراً أن نشر الكتاب في هذا التوقيت، هدفه التأثير في نتائج انتخابات منتصف الولاية المرتقبة في تشرين الثاني/ نوفمبر. واتهم وودوارد بأنه «جاسوس ديموقراطي».
بحسب أحد المساعدين، جال ترامب، أول من أمس، على مساعديه ليسألهم إن كانوا قد تحدّثوا إلى وودوارد، وكان مرتاباً و«يعتقد أنه لا يمكنه الوثوق بأحد». إلّا أنه طلب من الوزراء والمساعدين الواردة أسماؤهم في التقرير، إصدار بيانات تنفي ما نُقل عنهم.
يعتقد ترامب أنّه كان بإمكانه أن يشرح نفسه للكاتب، وتالياً يغيّر نظرته، بحسب أحد المساعدين، الذي أكّد أن الرئيس الذي «لم يعد يثق بأحد» بات يشعر بالعزلة.