لندن | لا يحتاج المرء إلى كبير اطلاع على تاريخ الإمبراطورية الأميركيّة ليدرك أن عقيدة واشنطن الثابتة هي في تحويل نصف العالم الغربي إلى منطقة نفوذ خالصة بأي ثمن، وأن المخابرات المركزيّة الأميركيّة ما زالت إلى اليوم تمارس ذات الأدوار التي لعبتها في صياغة أقدار أمم أميركا اللاتينية منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية من دون تغيير يذكر.محاولة الاغتيال الفاشلة التي تعرّض لها الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو تأتي في سياق متصاعد من حرب أميركيّة شبه معلنة على النظام «البوليفاري» مستمرّة منذ تولي هوغو تشافيز السلطة (1999) وتبنيه اتجاهاً اشتراكيّاً معادياً لهيمنة واشنطن. هذه الحرب التي أخذت أشكالاً متعددة من الحصار الاقتصادي والديبلوماسي وتوفير الدعم المالي واللوجستي للمعارضة اليمينيّة في تنفيذ عمليّات تخريب وعنف دمويّة – انتقلت في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي إلى حيّز جديد عندما صرّح الرئيس الأميركي دونالد ترامب بأنّ بلاده «تُبقي خيار التدخّل العسكري مفتوحاً» في فنزويلا، وأن رؤساء أربعة أنظمة في أميركا اللاتينية ــ معروفة بولائها لواشنطن ــ يدعمون تدخلاً عسكريّاً مشتركاً بين قوات أميركيّة وأخرى من كولومبيا وغيرها. بناءً على ذلك التهديد السّافر تجاه دولة مستقلّة وعضو في الأمم المتحدّة، انطلق نائب الرئيس الأميركي مايك بنس في جولة محمومة على الدّول الخاضعة لنفوذ بلاده في المنطقة، محاولاً الترويج لذلك الخيار. وهو للحقيقة لم يجد سوى كل التأييد من الرؤساء الذين زارهم، وإن كان بعضهم قد وجّه نصائح صريحة لواشنطن بأن حرباً مثل تلك لا يُضمن نجاحها، وقد تكون باهظة التكاليف بالفعل، وتمنّوا عليه دعم خيار دفع الجيش الفنزويلي إلى تنفيذ ما يمكن تسميته انقلاب «تشيلي 2.0»، على نسق انقلاب 1973 الذي كانت المخابرات المركزيّة الأميركيّة قد دبّرته حينها بالتعاون مع اليمين التشيلي لإسقاط حكم الرئيس اليساري سيلفادور الليندي.
لم يكن الأميركيون بحاجة بالطبع إلى نصائح أتباعها اللاتينيين، إذ إن الضغوط على قيادات الجيش الفنزويلي لا تتوقف منذ بعض الوقت، مراوحة بين الترغيب والترهيب، ووصلت إلى حدّ استهداف أربعة من كبار كوادر الجيش بعقوبات أميركيّة علنيّة لما بدا أنّه تقريع لهم لترددهم في تنفيذ انقلاب عسكري على نظام مادورو.
احتاج الجيش إلى 48 ساعة من الانتظار قبل إعلان تجديد وفائه لمادورو


الجيش الفنزويلي الذي يضم نطاقاً عريضاً من الضباط التشافيزيي النزعة، لا يخلو أيضاً من طينة أوغستو بينوشيه (وزير الدفاع الذي قاد انقلاب تشيلي 1973). هؤلاء «البينوشيين» يعلمون حقيقة العزلة الدوليّة التي تعيشها فنزويلا في النظام العالمي المُهيمَن عليه أميركياً، وقد يكونون غير راضين عن تردي الأوضاع الأمنية والاقتصاديّة في البلاد، لكن تشيلي 1973 شيء، وفنزويلا 2018 شيء آخر تماماً. فالجيش والقوى الأمنيّة الفنزويليّة قد تنتهي إلى انقسام دامٍ في حالة تنفيذ انقلاب عسكري واسع، كذلك إن البوليفاريين وحلفاءهم من اليسار (شيوعيون، وتاباك أومارو وغيرهم) والقوميين لن يسلموا بسهولة لليمين البرجوازي، وهم على نحو متزايد متدربون عقائدياً وعسكريّاً ولديهم خطط للتعامل مع مثل سيناريوهات كهذه. وفوق ذلك كلّه، إن طبقة العمال والفلاحين ــ وحتى بعض الفئات البرجوازيّة ــ تعلم تماماً أن سيادة فنزويلا هي المستهدفة، لا القيادة البوليفاريّة فحسب، وأن أي انقلاب يمينيّ سيعني عودتهم جميعاً إلى عبوديّة كسرها تشافيز، ويحاول مادورو أن يَعبر بها إلى الأمام. لذا، إن مغامرة الانقلاب العسكريّ تبدو رهاناً قد يكون باهظ التكاليف لا أحد في الجيش مستعد لخوضه، أقلّه إلى الآن.
الأميركيون المنزعجون من تجاوز مادورو لاستحقاق انتخابات الرئاسة الأخير بنجاح، ومن ثم الإشارات المتزايدة إلى عزمه السير في خطوات لملاقاة الاتجاهات اليساريّة واتحادات العمال والفلاحين في مطالباتها المستمرة بشأن المضي في تبنّي سياسات اشتراكيّة صريحة، ولا سيما ما يتعلق بملكيّة بعض القطاعات الاقتصاديّة والأراضي.
الأميركيون، عبر تنفيذ محاولة اغتيال تبدو في شكلها من إنجاز هواة غير محترفين، رغم جرعة الرمزيّة العالية لمكان هجوم «الدرونز» وتوقيته ــ لحظة إلقاء الرئيس كلمته المتلفزة في استعراض عسكري للاحتفال بالذكرى 81 لتأسيس الحرس الوطني الفنزويلي ــ أرادوا إبلاغ القيادات العسكريّة الفنزويليّة بأن انتظارهم قد بدأ ينفد، وأنهم قد يضطّرون في حال استمرار تردد تلك القيادات وانحيازها إلى جانب نظام مادورو، إلى استعادة خيار دعم محور التّدخل الخارجي الذي يتوزع مناصروه على مثلث معارضي مادورو، ميامي – بوغوتا – كاراكاس، ما قد يعني مواجهة قاسية مع الجيش، وأنّه قد تكفي تنحية شخص الرئيس من خلال عمليّة اغتيال محدودة لتحقيق بداية لانهيار المنظومة التشافيزيّة الشعبويّة ــ المتهمة بكونها مجرّد هالة حول شخص القائد ــ والسقوط في نوع من فوضى خلاقة قد تفرز وقائع واصطفافات جديدة.
وعلى الرّغم من أن أجهزة الحكومة الفنزويليّة المختلفة سارعت إلى دعم مادورو، وأعلنت وزارة الداخليّة إلقاءها القبض على عدد من المتورطين في العمليّة، فقد احتاج الجيش الفنزويلي إلى 48 ساعة كاملة من الانتظار قبل إعلان تجديد وفاء لا يتزعزع لمادورو، وهو ربما كان أوضح إشارة إلى الضغوط الأميركيّة الهائلة التي تتعرض لها القيادات العسكرية وتسبب نقاشات حادة بين أوساطها، وإن تفكيك مضامين الرّسالة الأميركيّة للوصول إلى قراءة مشتركة بين مختلف اتجاهاتها احتاج للمزيد من الوقت.
وبينما يتجه المراقبون إلى القول إن محاولة الاغتيال الفاشلة ستمنح مادورو مزيداً من العزم للقيام بخطوات أوسع باتجاه اليسار، فإن الأفق على المديين المتوسط والطويل لا يبشّر بالكثير، في ظلّ الصعوبات النظريّة والعمليّة العويصة التي يعاني منها المشروع الثوري البوليفاري، إذ إن هذه الدولة المتربعة على أكبر رصيد نفطي في العالم لا تجد الكثير من السلوى في التجارب الاشتراكيّة العالميّة، لكنها في ذات الوقت شبّت عن طوق الهيمنة الأميركيّة، ولم يعد ممكناً إعادتها إلى ايّام ما قبل تشافيز.
حتماً لن يتوقف الأميركيّون عن حربهم الطويلة ضد فنزويلا أو حملات أكاذيبهم المستمرة ضدّها، ولن تغيّر البرجوازيّة الفنزويليّة ثيابها فتصطف مع وطنها ضد هيمنة الإمبراطوريّة الأميركيّة، كذلك لن تتغير التوازنات الاستراتيجيّة تغيراً جذرياً يسمح بتقديم تضامن عملي مع فنزويلا على الساحة الدّولية، لكن القطاع الأعرض من الشّعب الفنزويلي أيضاً لن يقبل بالعودة إلى أوضاع ما قبل 1999 حتى ولو غاب مادورو، وما زالت الثورة البوليفاريّة ــ رغم فشلها المتكرر في بناء أية حلول سحريّة للأوضاع الاقتصاديّة الخانقة ــ تتمتع بتأييد ثلثي السّكان على الأقل. هي عقدة صعبة في التاريخ والجغرافيا معاً، ولذلك يقرأ قادة الجيش الفنزويلي الحكماء رسائل الأميركي لهم، ويتناقشون بشأنها، ثم يجددون ولاءهم لمادورو في انتظار أن تأخذ الأمور منحىً آخر، أيّ منحى.