«الخونة هم دائماً من الأصدقاء». لا تجد الحكمة الفرنسية من يعيد التذكير بصوابيتها أكثر من أنور قرقاش. وزير الدولة للشؤون الخارجية الإماراتية، أعاد التذكير من حيث لا يدري، أو يدري ربما، بأن الصداقة مع الولايات المتحدة الأميركية والحماية التي تندرج من هيمنتها على العالم ليست أبدية الصلاحية، بل من الممكن الاستغناء عنها: «نحن على استعداد لتحمّل المزيد من أعباء الأمن في محيطنا، فلم يعد بالإمكان الاعتماد على الولايات المتحدة».نشأت الهيمنة الأميركية على العالم على مرتكزات عسكرية وسياسية واقتصادية. ولكن مرتكزها الأهم هو القناعة التي نجحت واشنطن بترسيخها لدى طيف واسع من الدول التابعة لها والحليفة، أنها «أمة لا يمكن الاستغناء عنها» للحفاظ على مصالحهم، وعلى الاستقرار والأمن الدوليين. لكن التطورات خلال الشهور الأخيرة تظهر تصدع هذه القناعة، حتى لدى أقرب الحلفاء. إسرائيل في المقدمة، متبوعة بتركيا وألمانيا.
المصارحة الإماراتية بتولي «الهيمنة» على المحيط الذي تستنكف الولايات المتحدة عن حمايته، تتصدى عن قصد أو غير قصد، لابتزاز الرئيس دونالد ترامب دول الخليج وأنظمتها، عندما توقع علناً «ألّا تدوم أنظمتها أكثر من أسبوع فيما لو قررت الولايات المتحدة التوقف عن حمايتها» دون أن يجد ذلك رداً خليجياً واحداً... إلى قرقاش الذي يطمح إلى رسم استراتيجيات إقليمية، وتنفيذها بقوة مستقلة عن الولايات المتحدة.
ومن غير الواضح إلى أيِّ حد يمكن الذهاب في الطموح مع الوزير الإماراتي الذي لا يملك القدرة على تحقيق تلك الطموحات. فقرقاش وطموحاته «التوسعية» تصدر عن بلد يقود طيرانه الحربي الجنرال الأميركي ستافان توماجان، ويدير حرسه الرئاسي الجنرال الأوسترالي مايك هندرماش. وقبل أن ينضم وزير الدفاع الأميركي الحالي جيمس ماتيس، إلى فريق ترامب، قيّض له أن يعمل عاماً كاملاً، مستشاراً عسكرياً لرئيس دولة الإمارات. والجيش الذي يعد قرقاش بتولي أمن المحيط ليس من المحيط بشيء، إذ جند في كولومبيا مقاتلين خبروا عشرات السنين حرب العصابات ضد «القوات المسلحة الثورية الكولومبية» وطوروا أساليب القتال في الحرب المضادة للحرب الثورية. وجمع إليهم سواعد مقاتلين «استؤجروا» من بين قبائل عربية في تشاد والنيجر.
ولكن العبرة في ما يحدث هو التساؤل عن الأسباب التي تسمح لدولة كالإمارات، التي تمثل إحدى الحلقات الضعيفة في النظام الإقليمي والدولي، أنها لم تعد تتوانى عن الاعتماد على نفسها إلى حدّ عرض الحماية على الآخرين وتعزيز أمنها ومصالحها التي كانت تؤمنها الولايات المتحدة عقوداً طويلة، عبر هيمنتها على جزء كبير من العالم، فكيف سيكون حال ما بقي من حلفاء للولايات المتحدة، وهيمنتها.
لنتناول إسرائيل أولاً. لوقت طويل أغدقت على العلاقة الأميركية ــ الإسرائيلية صفات كثيرة تقلّبت بين الاستراتيجية، فالعضوية، فالبنيوية التي بشّرت بالعثور على ولاية أميركية حادية وخمسين على الساحل الشرقي للمتوسط. لكن التوصيف الأدق للعلاقات بينهما هو وكالة إسرائيل عن الأصيل الأميركي في مدّ أذرع الهيمنة المشتركة على المشرق العربي، وثباتها في هذا الدور بعد حرب حزيران ١٩٦٧. تعززت عضوية العلاقة بدءاً من تسعينيات القرن الماضي مع صعود نخب متماهية مع إسرائيل، ثقافياً وسياسياً، إلى مواقع القرار في واشنطن. كانت تلك العلاقة عنصراً ثابتاً لم يتبدل مع تقلب الإدارة بين الرؤساء بيل كلينتون، فجورج بوش، فباراك أوباما، وصولاً إلى إدارة دونالد ترامب الحالية.
قرقاش وطموحاته «التوسعية» تصدر عن بلد يقود طيرانه الحربي جنرال أميركي


داهمت المتغيرات في موازين القوى الدولية والإقليمية كما ظهّرتها الحرب في سوريا كل التوصيفات التي أمكن إطلاقها على قران الثنائي الإسرائيلي الأميركي. ودفعت تلك المتغيرات إسرائيل إلى الاعتماد المتزايد على روسيا، أكثر من اعتمادها على الولايات المتحدة، لسدّ الثغرات الأمنية على حدودها الشمالية. وجاءت متغيرات أخرى على المستوى التجاري والاقتصادي بين الصين وإسرائيل، لتظهر هي أيضاً التطور المذهل في العلاقات الصينية ــ الإسرائيلية، في وقت تستعد فيه الولايات المتحدة لتصعيد الحرب التجارية مع الصين.
تضاعف الاستثمار الصيني المباشر ثلاث مرات في إسرائيل، ليبلغ ١٦ مليار دولار في عام ٢٠١٦. وتتوقع الأوساط الإسرائيلية أن تتفوق الصين على الولايات المتحدة في أداء دور المستثمر الخارجي الأول، في السنوات القادمة. وفيما تسعى المصانع الصينية إلى وضع يدها على التكنولوجيا الإسرائيلية، تجهد الشركات الإسرائيلية إلى الاستفادة من الأسواق الصينية العملاقة. وللمساعدة على تعميق هذه الاتجاهات، يعقد سنوياً مؤتمر «سيلكون دراغون إسرائيل»، و«قمة الإبداع الصيني الإسرائيلي» التي انعقدت هذا العام في مقاطعة غوانغ دونغ الصينية. يتجاهل الإسرائيليون حتى الآن مخاوف «البنتاغون» من أن تتمكن الصين من خلال استثمارات مدنية من الحصول على حق استغلال براءات اختراع لتطوير جيل جديد من الأسلحة قد تهدد القوات الأميركية وحلفاءها. وبالرغم من أن إسرائيل لا تزال حريصة على أولوية واستراتيجية علاقاتها مع الولايات المتحدة، إلا أنها لن تكون بمنأى عن هذه التحولات الجارية، خصوصاً مع تضخم حجم الدخول الصيني في الاقتصاد الإسرائيلي. ساد لدى النخب الإسرائيلية أواخر التسعينيات ما سمي «خيار موشيه أرينز» (وزير الخارجية الأسبق) الذي رأى أنه ينبغي لإسرائيل أن تطور شراكة استراتيجية مع الصين ودول آسيوية أخرى، تحسباً لانحسار نفوذ الغرب، بقيادة الولايات المتحدة في مستقبل متوسط أو بعيد المدى.
تركيا ثانياً. دقت الأزمة السورية هي أيضاً، إسفيناً في الثقة مع الولايات المتحدة. لعب الأميركيون الورقة الكردية في سوريا. وذهبت الولايات المتحدة بعيداً في رهانها على الأكراد كقوة رديفة في سوريا إلى حافة تفجير العلاقات التركية الأميركية. وكان من البديهي أن يتحوّل التحالف الكردي الأميركي تهديداً لأمنها القومي، في شبه إجماع لتركيا ونخبها من جميع الاتجاهات الوازنة. وجاءت المحاولة الانقلابية في تموز من عام ٢٠١٦، والاتهام التركي للولايات المتحدة بالتورط في تلك المحاولة، لكي تنطلق أكبر عملية تطهير في مؤسسات الدولة التركية طاولت بشكل خاص المجموعات «الأطلسية» الوفية للولايات المتحدة، ولا سيما داخل المؤسسات العسكرية والأمنية. ورغم أن حزب «العدالة والتنمية» هو الذي يحكم تركيا، إلا أنه في الواقع لا يفعل ذلك إلا من خلال تحالف يمتد من الإسلاميين إلى القوميين الذين ينادون باعتماد الخيار «الأوراسي» وإدارة الظهر للاتحاد الاوروبي والخيار الغربي.
ومن المفارقات أن الحرب السورية لم تؤدِّ إلى صدام روسي أميركي، كما روّجت له رهانات كثيرة، ومن خلفهما تركيا، بل تحولت إلى ميدان لتجديد التعاون وإطلاق شراكة روسية تركية في مجالات الغاز والطاقة النووية، دفعت الموقع التركي نحو انزياح استراتيجي. ومن نافل القول إن تحوّل الروس لتصدير غازهم عبر تركيا، وشبكة أنابيب السيل التركي، عزّز هذا الانزياح داخل حلف شمال الاطلسي. وجاءت صفقات الأسلحة لشراء منظومة صواريخ «آس ٤٠٠» الروسية لتدفع بهذا التحول. هدّدت تركيا بشراء طائرات «سو ٥٧» الروسية من الجيل الخامس حتى بعد موافقة الولايات المتحدة على صفقة من مقاتلات «آف ٣٥» معها، بعد طول عناد. إن التمعن في هذه التحولات يظهر خطورة انزياح دولة كتركيا نحو روسيا، تبوأت دوراً محورياً خلال الحرب الباردة في مواجهة الاتحاد السوفياتي. حتى إن بريطانيا حرصت نهاية القرن التاسع عشر على عدم مهاجمة الإمبراطورية العثمانية للإبقاء عليها جداراً عازلاً لتمدد روسيا القيصرية نحو المياه الدافئة. نحن أمام هذا التحول الخطير في الجيو استراتيجيا العالمية التي سادت منذ أواخر القرن التاسع عشر.
ألمانيا ثالثاً. يعود الازدهار الألماني وصعود القاطرة الاقتصادية للاتحاد الأوروبي بعد الحرب العالمية الثانية إلى الولايات المتحدة. وفّرت المظلة الأميركية الاستراتيجية والأمنية فرصة ألمانيا الذهبية لكي تكرس جُلَّ مواردها لتعزيز الاقتصاد والصناعة بشكل خاص. لبث الاعتراف الألماني بالجميل الأميركي زمناً طويلاً، قاعدة القبول بالهيمنة الأميركية على ألمانيا خلال الحرب الباردة وما تلاها، حتى وصول الإدارة الاميركية الجديدة. تشنّ هذه الإدارة حرباً مفتوحة على ألمانيا، وصلت إلى ذروتها مع فرض رسوم جمركية على الصادرات الألمانية من السيارات والصلب والألمنيوم، في إطار حملة حمائية تشمل الاتحاد الأوروبي بشكل عام.
وتبلور فقدان الثقة بين الألمان والولايات المتحدة عندما افتتحت قمة «الناتو» عاصفة من الأزمات في العلاقات الألمانية الأميركية. إذ أضاف دونالد ترامب مطلب زيادة الإنفاق الدفاعي الألماني والأوروبي إلى ٤ في المئة من الناتج القومي الخام، إلى لائحة شروطه لكي تستمر الولايات المتحدة بحماية أوروبا، بما يتجاوز الحدود المتفق عليها مع الرئيس باراك أوباما بنسبة الضعف. ومنذ وصول ترامب إلى البيت الأبيض، يتبلور خطاب ألماني حول ضرورة الاعتماد على النفس بما يتطابق مع ما يقوله الإماراتيون والأتراك، من ضرورة الاعتماد على النفس لتأمين الدفاع عن أمنهم، وإعادة النظر بالعلاقات مع روسيا، والتفاهم مع فلاديمير بوتين، رغم عدم الذهاب إلى حدّ توجيه تحدٍّ يقطع مع الولايات المتحدة في إلغاء العقوبات التي يفرضها الاتحاد الاوروبي على روسيا، والتي ستُعَدّ عند ذلك منعطفاً حقيقياً في التعاطي مع الهيمنة الأميركية على أوروبا.
إلا أن ذلك لا يمنع السجال على ضفتي الأطلسي من الاشتعال، كاشفاً عن أزمة ثقة كبيرة. يذهب وزير الخارجية الألماني هايكو ماس بعيداً في تحدي القوة الأميركية المهيمنة لعقود على مصائر الأوروبيين، وألمانيا منهم، والقول إن «أوروبا لن تخضع لتهديدات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، لأننا إذا خضعنا مرة واحدة لتهديداته، سيتعيّن علينا أن نتعامل في المستقبل في كثير من الأحيان مع سلوك مماثل».