غالباً ما يكون «صندوق النقد الدولي» (IMF) المكان المناسب للحصول على مساعدات مالية في أوقات أزمات الدول الناشئة، كتركيا، لكن جراء هذه القروض التي تلجأ إليها على مضض، والتي لا تتوافر من المقرضين الآخرين، تتقبل الدول المتعثرة الشروط المريرة التي يفرضها الصندوق. وعادة ما تصدر القروض على صورة شرائح متسلسلة، إذ يكون تسليم الشريحة اللاحقة مشروطاً بإكمال «الواجبات المنزلية» الصعبة المنصوص عليها في الاتفاق.في الأشهر الأخيرة، كثيراً ما كانت المشكلات الاقتصادية في الأرجنتين وتركيا موضع نقاش. في منتصف أيار الماضي، كان على الأرجنتين ـــ التي تملك مؤشرات اقتصادية أكثر سوءاً من تركيا ـــ أن تطرق باب «النقد الدولي» للحصول على المساعدات، متحدية الغضب الشعبي من احتمال اتخاذ تدابير التقشف. لكن ماذا عن تركيا التي كانت الأسبوع الماضي على شفا أزمة قاسية في عملتها قبل انتخابات يوم غد؟ تشير توقعات البلاد إلى أنها ليست بحاجة ماسة إلى الترشح للحصول على مساعدات «النقد الدولي»، ولكن يبدو أنه لا مفر منها إذا ما غاب عن أنقرة «الملاذ الأخير قبل الهاوية».
واللافت أن تركيا والأرجنتين تشتركان في المصير نفسه منذ أوائل العقد الأول من القرن الحالي، وهما اللتان عانتا «أمراضاً اقتصادية» شائعة كالعجز العام الضخم، وتهديد الديون الخارجية، والفجوات الفجائية في الحساب الجاري، وهبوط رأس المال، وانخفاض قيمة العملات. وبالنسبة إلى كلا البلدين، تم عرض مقترحات إنقاذ من الصندوق باعتبارها السبيل الوحيد للخروج من الأزمة، لكن مع تكلفة باهظة مرافقة لتدابير التقشف التي سيكون لها آثار وخيمة على السكان.
في 2001، وافقت الحكومة الائتلافية التركية برئاسة الراحل بولنت أجاويد، الذي واجه أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخ البلاد، على هذا الخيار، وضمناً على العواقب السياسية الكارثية التي سيترتب على برنامج التقشف المدعوم من «النقد الدولي» لشركاء الائتلاف الثلاثة. أما الأرجنتين، فقاومت آنذاك، وتمت هيكلة ديونها الخارجية في 2005 و2010، كما فرضت شروطها الخاصة على كيفية وموعد سداد مقرضيها. «الدائنون» ممن رفضوا إعادة الهيكلة نقلوا قضيتهم إلى قاضي نيويورك الذي أمر الأرجنتين بتسديدها بالكامل، لكنها رفضت، ثم خلّف التخلف عن سداد الديون والمواجهة مع الدائنين مشكلات كبيرة في تدفق الأموال الخارجية، كما تجنّب المستثمرون الأجانب البلاد.
حتى نهاية «عهد كيرشنر» ذي الميول اليسارية عام 2015، ظلت الأرجنتين «الفتى المتمرد» لأسواق الائتمان الدولية، بينما كانت تنفق كثيراً على برامج الرعاية الاجتماعية والتشبث بالحمائية. لكن تعميق الأزمات الاقتصادية ساهم في انتصار موريشيو ماكري، الصديق للسوق في 2015، الذي سعى إلى التصالح مع الممولين العالميين ومهّد الطريق لعودة الأرجنتين إلى أسواق رأس المال الدولية. وبمجرد وصوله إلى السلطة، شرع ماكري في الاقتراض المكثف القصير الأجل عن طريق السندات المقومة بالبيزو، والمعروفة باسم «ليباك»، التي جذبت جحافل من المستثمرين من أصحاب الأموال الساخنة. ووفقاً لأرقام «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية»، بلغت الاستثمارات القصيرة الأجل في الأرجنتين 68 مليار دولار ما بين 2014 و2017، مقارنة مع 35 ملياراً جذبتها تركيا. وقد اجتذبت عائدات السندات المرتفعة في الولايات المتحدة المستثمرين على المدى القصير من العديد من البلدان الناشئة، بما في ذلك الأرجنتين وتركيا. ورغم رفع أسعار الفائدة إلى 40٪، فشلت الأرجنتين في وقف النزف، إذ خسر البيزو أكثر من 25% في القيمة هذا العام، ثم انتهى ماكري عند باب «صندوق النقد»!
هل تركيا في الطريق لمتابعة خطى الأرجنتين؟ يقول كوركوت بوراتاف، وهو أحد أبرز الاقتصاديين في تركيا، إن الذهاب إلى الصندوق يكاد يكون حتمياً في 2019، بغض النظر عمن سيفوز بالانتخابات الرئاسية والبرلمانية. لكن، هل هذا يعني أن أنقرة ليس لديها مخرج أخير قبل «الهاوية» لإبطال هذا الاحتمال؟ لقد انفصلت المؤشرات الاقتصادية لتركيا والأرجنتين بصورة ملحوظة عن مؤشرات الدول الناشئة الأخرى؛ تشمل أوجه التشابه بينهما: ارتفاع معدلات التضخم، والعجز الكبير في الحساب الجاري، والفجوات في الميزانية، وانخفاض قيمة العملة التي يغذيها هرب الأموال الأجنبية، والزيادات في أسعار الفائدة التي تهدف إلى الحد من هبوط العملة. مع ذلك، لم تصل تركيا بعد إلى النهاية.
في أحدث تقرير لـ«صندوق النقد الدولي» عن تركيا، وقد كُتب قبل اضطراب العملة في أيار، أصدر الصندوق سلسلة تحذيرات إلى أنقرة قال فيها: «رغم أن السياسات التوسعية كانت مبررة في البداية (بعد تراجع النمو في 2016)، فإنها لم تعد مناسبة لأن الاقتصاد يظهر علامات واضحة على تدهور حتمي... السياسة النقدية تبدو فضفاضة للغاية وصدقيتها منخفضة». وأضاف التقرير: «السياسات المالية على الميزانية وخارجها تعد توسعية وتهدد بتقويض صدقية تركيا المالية المكتسبة بصعوبة». وفي ظل ارتفاع التضخم وتزايد العجز في الحساب الجاري، أكد التقرير «نقاط الضعف الأساسية التي تشمل: احتياجات التمويل الخارجية الكبيرة، واحتياطات النقد الأجنبي المحدودة، وزيادة الاعتماد على تدفقات رأس المال القصيرة الأجل، وارتفاع تعرض الشركات لمخاطر صرف العملات الأجنبية»، بالإضافة إلى «علامات زيادة العرض المحتملة في قطاع البناء والتشييد».
في المقابل، لم تؤتِ جهود أنقرة لكبح التباطؤ، بما في ذلك رفع أسعار الفائدة ثمارها حتى الآن. ففي 23 أيار، عندما بلغت الليرة أدنى مستوى تاريخي لها مقابل الدولار الأميركي، وسط توترات في السوق بشأن تدخّل الرئيس رجب طيب إردوغان في السياسة النقدية، رفع البنك المركزي سعر سياسته بمقدار 300 نقطة أساس، ما مهد الطريق لـ«المباطحة» بين أسعار صرف العملات الأجنبية وأسعار الفائدة. لذلك، ستكون استعادة الثقة المحلية والأجنبية في أنقرة تحدياً رئيسياً في تحديد الأرصدة، إذ يمكن للحكومة التي ستخرج من رحم انتخابات 24 تموز محاولة فعل ذلك والنجاح في استقطاب المستثمرين الأجانب وتعزيز الليرة. هذا من شأنه أن يساعد على خفض معدلات الفائدة تدريجياً والحد من التضخم. ويمكن لاستعادة الثقة أن تنعش الاستثمارات وتحفز النمو، ويمكن استعادة الانضباط المالي بالمثل. مع هذا، قد لا تحدث هذه التحسينات بسرعة، وخاصة مع الانتخابات البلدية في آذار 2019، التي تلوح في الأفق كمصدر جديد للضغط السياسي على الجهود الرامية إلى إصلاح الاقتصاد. والسيناريو الأسوأ هو أن تمنع الرياح المالية العالمية الأموال الأجنبية من العودة إلى تركيا، بعيداً عن الجهود التي تبذلها أنقرة في الداخل، وهذا ما يمكنه أن لا يترك خياراً آخر أمامها سوى التوسل لـ«النقد الدولي».