ساعتان، ربما أكثر بقليل، هو الزمن الذي أقام فيه حبر التوقيع الأميركي في ذيل بيان الدول الصناعية السبع الكبرى بعد اجتماع قادتها في «شارلفوا» الكندية أول من أمس. فقبل أن تحط طائرته في واشنطن، بقي الرئيس دونالد ترامب وفياً لنفسه في تحطيم ما لا يوافق مزاجه من اتفاقات ومعاهدات. وكما أزال توقيع أسلافه على اتفاقية باريس حول المناخ، أو الشراكة العابرة للأطلسي، أو الاتفاق النووي، وأي اتفاق يعترض طريق أميركا كي تصبح «أولاً»، لقي توقيعه على بيان السبع الكبار مصيراً مماثلاً.في تغريدة لا مفاجأة فيها، كان الرئيس دونالد ترامب يمارس أحب هواياته إلى قلبه: محو توقيعه من البيان الذي يجمعه بالاتحاد الأوروبي وكندا، بشكل خاص، والتنصل من أي التزامات، على رغم أن البيان الذي لم يمض عليه أكثر من ساعات ولد طرحاً، ولم يتجاوز الشكلي. الامحاء كان معطوفاً على مناسبة لن يضيعها الرئيس لإهانة «شركائه» بعد يومين من تعب تصنّع الحرص في بيت العائلة الصناعية في «شارلفوا» الكندية، وتأجيل انفجار العائلة حيناً آخر، والقبول ببيان من العموميات ولغة الخشب التقليدية بالنص على ما يرضي الجميع «بأن قواعد التجارة ينبغي أن تكون حرة، ومنصفة ومربحة للجميع، وتعهد بإصلاح منظمة التجارة العالمية». النص يترك الباب مفتوحاً أمام تفسيرات لا تغضب أحداً بين ما تبقى من «المكتب السياسي» للنظام الاقتصادي الليبرالي العالمي، والذي يستحوذ على نحو نصف إنتاج الأرض وحده، ويمسك بثمانين في المئة من التجارة العالمية، ويضم إلى الولايات المتحدة ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا واليابان وكندا. الرئيس الأميركي لم يغضب لإجراء أي مؤامرة قد يكون حاكها من تأخروا في «شارلفوا» من الستة ضده. التغريدة الترامبية لا تخرج عن سياق مزاج الرئيس الملتهب. كلمة «مهينة» التي وصف بها رئيس الوزراء الكندي جوستان ترودو، إجراءات ترامب التي فرضت ٢٥ في المئة من الرسوم الجمركية على استيراد الصلب، و١٠ في المئة على الألمنيوم، هي التي أشعلت ترامب والذي رد بتعبئة درامية لأميركا البيضاء والعميقة في حلف مقدس من أجل الدفاع عن نفسها: «الولايات المتحدة لن تترك البلدان الأخرى تفرض عليها رسوماً كبيرة، وحواجز تجارية على عمالها ومزارعيها وشركاتها».
رئيس مجلس العلاقات الخارجية، ريتشارد هاس، قد يكون أتى بالقراءة هي الأقرب إلى فهم ما جرى في ذهن ترامب: «إنّ إضعاف النظام الليبرالي الدولي يعود إلى تغيّر موقف الولايات المتحدة. ففي عهد الرئيس ترامب، قررت ألا تنضم إلى الشراكة العابرة للأطلسي، وأن تنسحب من اتفاقية باريس حول المناخ، وهي تهدد بالانسحاب من اتفاقية التجارة الحرة مع المكسيك وكندا (نافتا)... أميركا أولاً، والنظام الدولي نفيان لا يلتقيان. من الجائز انتقاد القوى الكبرى الأخرى، بما فيها الاتحاد الأوروبي، الصين وروسيا، واليابان، لما تفعل أو لما لا تفعل، لكن الولايات المتحدة ليست مجرد دولة إضافية على الخريطة فهي مهندس النظام الليبرالي الدولي وكفيله والمستفيد الأول منه. لذلك يشكل قرارها بالتخلي عن دور لعبته منذ سبعين عاماً منعطفاً كبيراً».
«الترامبية» ترى أن العولمة في طورها الحالي سمحت ببروز أقطاب منافسة


فالهيمنة الأميركية، والتي تبدو صيحة «أميركا أولاً» للرئيس ترامب دعوة لكبح أفولها التدريجي، كانت قد استندت إلى ٨٠٠ قاعدة عسكرية في أرجاء الأرض وعشرات الحروب والغزوات، ولكنها استندت للحفاظ على استمراريتها إلى منظومة من المؤسسات الدولية والمعاهدات، كالأمم المتحدة، وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية، واتفاقات التجارة الدولية الدورية التجديد.
لكن الولايات المتحدة التي قادت العولمة لم تعد في نسختها الترامبية نصيراً للعولمة، بل إنها تريد الخروج من دور الضامن لأسس ومرتكزات النظام الليبرالي العالمي نفسه. ذلك أن الترامبية ترى أن العولمة في طورها الحالي قد سمحت ببروز أقطاب منافسة للولايات المتحدة على المستوى الاقتصادي والتجاري، وخطفت جزءاً كبيراً من أسواقها العالمية والداخلية لمصلحة الصين وأوروبا واليابان، وأدت إلى تفاقم كبير في ميزان المدفوعات. بلغة ترامب المباشرة، إن القشة التي قصمت ظهر الكاوبوي، هي تراكم العجز التجاري الخارجي الذي بلغ العام الماضي أكثر من ٥٦٦ مليار دولار لمصلحة الاتحاد الأوروبي والصين، وهو رقم غير مسبوق منذ عام ٢٠٠٨. نظرة على ميزان المدفوعات الأميركي تُبيّن اتساع «الحرب التجارية» التي تشنها أوروبا تحديداً وكندا لدى الرئيس الأميركي، ومشروعية الرد.
فقبل «حرب الصلب والألمنيوم» كانت الولايات المتحدة لا تفرض أكثر من ٢.٥ في المئة من الرسوم عليها، فيما كانت أوروبا تبادل البضائع الأميركية برسوم تصل إلى ١٢.٥ في المئة.
في مواجهة التغريدة الترامبية، لم يصدر أي جواب أوروبي يسمي الرئيس الأميركي بالاسم باستثناء الدعوة إلى الالتزام بالتفاهمات. وقبل ذلك أصلاً، لم تجد الهجمات الترامبية والسلسلة الطويلة من نقض الاتفاقات التجارية والاستراتيجية والمناخية، أي جواب أوروبي متناسب مع حجم التحديات، والتهديدات التي يطلقها ترامب للمصالح الأوروبية. مدير «مركز الأداء الاستراتيجي» في مدريد، براء مكاييل، يعزو ذلك إلى موقف انتظاري يرى أن الترامبية ظاهرة عابرة في العلاقات ما بين ضفتي الأطلسي: «من بين الأوروبيين من يراهن على أن المشكلات التي يثيرها ترامب مع الاتحاد الأوروبي والعالم، تحتاج فقط إلى انتظار ثلاث سنوات، وهي المدة المتبقية من ولاية الرئيس الحالي في البيت الأبيض، كي تحل نفسها بنفسها».
إن ايمان الأوروبيين بأسس النظام الليبرالي الدولي، وبالقيم المشتركة التي جمعت أوروبا إلى الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة، وبقدرة النظام الديموقراطي على تصحيح المسارات عندما تتناقض مع مصالح النظام، كما يرون الترامبية، يملي عليهم الانتظار. بالإضافة طبعاً، وخصوصاً، إلى ضعفهم أمنياً واستراتيجياً إزاء الولايات المتحدة وعجزهم عن تحويل العملاق الاقتصادي الأوروبي من مجرد سوق إلى عملاق سياسي ودفاعي قادر على الاستغناء عن المظلة الأمنية الأميركية و«الناتو»، التي لا تزال الولايات المتحدة توفر ٩٠ في المئة من موازنتها العسكرية. وحتى في ذروة الهجوم الأميركي، كان الرئيس إيمانويل ماكرون يقول إنه «لا يمكن تصور أمن الغرب من دون الولايات المتحدة»، وهو ما يجعل فكرة الاستغناء عن الشريك السابع في الدول الصناعية، والانفراد بالستة لتقرير مسار الاقتصاد العالمي، دونما أي أساس. ذلك أن العجز في تصور تغيير في المقاربة الأمنية، وفي وصاية الولايات المتحدة على الأمن الأوروبي تنبع من الاخفاقات المتصلة منذ السبعينات في كل المشاريع التي طرحت من أجل انشاء ذراع أمني ودفاعي أوروبي مستقل.
يرى مكاييل أن «الخلافات الأوروبية البينية حول القيادة السياسية لا تزال العائق الأكبر أمام تحول أوروبا من سوق إلى قطب دفاعي أمني. فالفكرة التي طرحها الرئيس ماكرون حول المحرك الفرنسي الألماني للاتحاد الأوروبي ليست متكاملة، كما أن رئيس المفوضية جان كلود يونكر عارض اقتراح انشاء قطب أوروبي، فضلاً عن عدم وجود تكامل في هذا المحرك حتى الآن».
وإذا كانت الصين قد اختارت اللجوء إلى منظمة التجارة العالمية للتحكيم، وعرض صفقات لشراء منتجات أميركية تعوّض على ترامب، موقتاً، الخلل الكبير في الميزان التجاري، إلا أن الاتحاد الأوروبي المستهدف الأساسي مع كندا (التي تمثل ١٧ في المئة من واردات الصلب إلى أميركا) لا يقدم حلاً سوى انتظار نهاية ولاية ترامب. لكن سياسة ترامب ستطلق ديناميات من الصعب مواجهتها أو اصلاح الأضرار التي ستؤدي إليها. كما أن الرهان على خروجه من السلطة بعد ثلاثة أعوام، وتمرير الوقت ليس واقعياً، لأن المؤشرات كلها تدل حتى الآن أنه كلما أمعن ترامب في تفكيك النظام الليبرالي العالمي ارتفعت شعبيته، وزادت احتمالات إعادة انتخابة لولاية ثانية، لا تفعل سوى إطالة أمد الأوهام الأوروبية بالتوصل إلى حل من دون مواجهة.