برازيليا | حين يتوقّف شريان الحياة أيّاماً عدّة في بلد يمتدّ على مساحة 8.5 ملايين كيلومتر مربع، وتفقُدُ المناطق المواد الأساسية كالمحروقات والمواد الطبية والغذائية، فضلاً عن توقف المواصلات والبريد وإقفال المدارس والجامعات وتأجيل العمليات الجراحية غير المستعجلة، فيما يؤيد 87 في المئة من الناس هذا المشهد، فإنّ الأمر لا يمكن حصره في أمر مطلبي، بل في ثورة شاملة فجرها الاستهتار بحقوق الناس وسياسات الإفقار التي قادها اليمين في البرازيل، منذ أن استولى على السلطة عقب الانقلاب الذي أطاح الرئيسة «العمّالية» ديلما روسيف، منتصف عام 2016.حين طرحت حكومة الرئيس البرازيلي ميشال تامر، مشروع خصخصة 168 شركة ومرفأ، جنّ جنون اليسار. حذّر في حينه الرئيس الأسبق لولا دا سيلفا، مما سماها «اللصوصية القاسية» التي يتبعها تامر وحلفاؤه، وحذّر أيضاً من أن الإنجازات السيادية التي عمل على تحقيقها خلال سنوات ستدمر في أيام. خاض الإعلام البرازيلي معركة الرئيس الانقلابي وراحت كبرى مؤسساته تروّج للبحبوحة والنمو الاقتصادي، حتى وصل الأمر إلى أن نشرت «فوليا دي ساوباولو»، وهي إحدى أشهر الصحف البرازيلية، خبراً ترويجياً على غلافها مفاده بأنّ خصخصة 168 قطاعاً حكومياً سيُدخِل إلى الخزينة العامة أكثر من 500 مليار ريال برازيلي (حوالى 160 مليار دولار أميركي آنذاك).
هذا في عنوان الغلاف، أما في محتوى التحقيق، فقد وعدت الصحيفة بأنّ هذه المبالغ سيرتد قسم كبير منها إلى حكومات الولايات التي ستبدأ في أكبر عملية نهوض اقتصادي وإنمائي، وتبرعت الصحيفة في المبالغة بالنتائج: استضافت عدداً من المحللين الاقتصاديين الذين شاركوا في رسم الآمال وأكدوا أنّ هذه المبالغ ستساهم في سد العجز العام وإثراء الولايات وأنها خطوة شديدة الأهمية. هذه الحملة الإعلانية كانت تهدف بالأساس إلى إقناع الرأي العام البرازيلي الذي كشفت الإحصاءات آنذاك أنّ أكثر من سبعين في المئة منه يرفضون الخصخصة.
في صيف 2017، مرر ميشال تامر مشاريع خصخصة المطارات والمرافئ والبنوك الحكومية بنعومة، وأخذته الشهية لإدارة مفاوضات مع شركة «نستلة» على هامش الملتقى الاقتصادي العالمي في سويسرا لخصخصة 1.2 مليون كيلومتر مربّع من المياه العذبة، كما أنّه عقد لقاءات مع وفد من شركة «Water Resources Group» التي تضم «كوكا كولا» و«بيبسي كولا» لخصخصة القطاع نفسه.
لم يقف طموح تامر في بيع المرافق الحكومية عند حدود، فلجأ إلى تقديم مشروع قانون لخصخصة كبرى شركات الطاقة في البرازيل، «التروبراس»، لكن الجدل الواسع والتدخل القضائي منعا بيع هذا القطاع، الذي يغذي 35 في المئة من البرازيل بالطاقة الكهربائية ويضم مشاريع الطاقة النووية.
الأزمة في البرازيل توازي واقع الأزمة في الأرجنتين


هذه المواجهة دفعت الفريق الحكومي إلى ابتداع خصخصة مقنّعة تحت عنوان بيع الأسهم، وهذا ما فجّر الأزمة الحالية في البرازيل، حيث خرج سعر النفط والغاز من يد الحكومة وأصبح متصلاً بشكل مباشر بالأسعار العالمية وقوة الدولار الأميركي، ما جعله يرتفع بطريقة جنونية. هذا التطوّر أدّى إلى أوسع إضراب في تاريخ البرازيل الحديث، حيث سُدّت كل المنافذ والطرقات وأقفلت محطات الوقود والمؤسسات الصناعية والزراعية، فيما عمدت المدارس والجامعات الى تسريح طلابها، وتوقفت وسائل النقل العام عن نقل العمال والموظفين، فدخلت البلاد في حالة شلل شبه كاملة.
إثر ذلك، حاولت الحكومة اليمينية تطويق الأزمة عبر الترهيب، فاستعانت بالقوى الأمنية وألوية الجيش، إلا أنّ الشرطة الفدرالية أعلنت تأييدها للمحتجين ورفضت أن تكون جناحاً عسكرياً للحكومة التي فقدت شعبيتها بشكل استثنائي. وكذلك فعل الجيش، الذي راحت طوافاته تطلق الأناشيد الوطنية فوق المتظاهرين، ما أثار سخط تامر الذي أسرّ إلى أوساطه بأن الجميع يقفز من القارب الذي شارف على الغرق.
رضخ الرئيس البرازيلي لمطالب سائقي الشاحنات الذين أوصدوا طرقات البرازيل، ووافق على خفض سعر «الديزل» وإعفائهم من رسوم المرور، وهو يعلم بأنّ هذه التنازلات ستجبره على فرض ضرائب في قطاعات أخرى كونه ملزماً بتسديد الفارق من ميزانية الحكومة. إلا أنّ المفاجأة كانت في أنّ قسماً كبيراً من المحتجين رفض تخدير الأزمة، وحسم خياره بأنّ الحكومة الحالية باتت غير قادرة على إدارة البلاد وأنّ الحلول باتت في أيدٍ غريبة سُلِّمت مفاتيح الاقتصاد، وعليه فإنّ الطلب الأوحد يُختصر في عزل ميشال تامر وإقالة حكومته «المشبوهة».
لم تراع الحكومة البرازيلية حقوق الفقراء والطبقة الوسطى، بل أمعنت في اتخاذ السياسات القاسية، أهمها: وقف العمل في المعونات الحكومية للأسر الفقيرة؛ إقفال آلاف الصيدليات الشعبية التي كانت تؤمن الأدوية بأسعار رمزية؛ إلغاء مشروع السكن الحكومي؛ تحديد المعونات الجامعية وتراجع في المؤسسات الصحية الحكومية وخصخصة المختبرات الطبية؛ أما الأخطر فهو في أنّ القطاع الخدماتي بات خارج إرادة الدولة حيث تتحكم فيه شركات المال والأعمال الأجنبية.
وصلت الأمور إلى النقطة الصفر. هكذا يقول البرازيليون الذين أعلنوا تمردهم على الدولة وأجبروا القوى العسكرية على عدم إطاعة الأوامر الحكومية. بات المشهد ينبئ بما هو أعظم، فالغضب الذي يحكم الشارع قد يتحوّل إلى انفجار شامل في أي لحظة، إذ إنّ كل الظروف باتت مهيأة للفوضى.

الأرجنتين: 15 عاماً إلى الوراء
الأزمة في البرازيل، على ضخامتها، توازي واقع الأزمة في الأرجنتين، لكن الفارق أنّ الضوضاء البرازيلية عتمت على أحداث الأرجنتين المتسارعة بعد هبوط العملة بشكل حاد وغلاء الأسعار وتداعي الطبقة الوسطى. وكل هذا يترافق مع اهتزاز اقتصادي داخلي نتيجة السياسات الليبرالية التي اعتمدها الرئيس اليميني ماوريسيو ماكري، الذي لم يقل حماسة عن نظيره البرازيلي في مشاريع الخصخصة التي طاولت حتى قطاع البريد والقطاع الصحي في الأرجنتين، فيما يصف خبراء اقتصاديون ماكري بـ«المغامر الغبي»، إذ إنّه أعاد عقارب الساعة 15 عاماً إلى الوراء، مذكّراً الأرجنتينيين بأسوأ أزماتهم. (حتى إنّ صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية ذكرت الأسبوع الماضي أنّ مفاعيل أزمة 2001 تبدو كأنها تتكرر، حيث يُلاحظ أن المستثمرين الأجانب بدأوا سحب أموالهم إلى الخارج، ما اضطر البنك المركزي إلى اتخاذ إجراءات صارمة لتحقيق استقرار عملة البلاد).
في السياق، يؤكد خبراء متابعون أنّ تكرار الأزمة يشير إلى ما هو أبعد من خطأ في التقدير، ويذهب بعضهم إلى اتهام الرئيس الحالي بالخيانة حين كسر التدابير الوقائية التي حمت البلاد على مدار 14 عاماً، وهي الفترة التي حكم فيها اليسار وأنقذ فيها الأرجنتين من الانهيار الكامل بعدما استقال خمسة رؤساء في أقل من أسبوع.
إزاء هذا المشهد، يبقى السؤال الأبرز: ما هي الضمانات التي استند إليها ماكري كي يدخل في مغامرة اقتصادية غير محسوبة، وخصوصاً لناحية فتح الأسواق بحرية بهدف السماح لوصول التمويل الخارجي وتدفق رأس المال؟ وعلى الرغم من النتائج العكسية، هو يصرّ على المضي في سياساته تحت عنوان الحفاظ على الثقة والصدقية التي تتمتع بها الأرجنتين في العالم، واصفاً الخطة الحمائية السابقة بأنها تندرج ضمن نزعة «شعبية وديماغوجية».
انتقاد الأداء الاقتصادي المدمر للحكومة الأرجنتينية لم يكن حكراً على المعارضة، وإنّما راحت كبرى الصحف اليمينية، مثل «إيكونومست»، تصف الرئيس بالضعيف والمرتبك، وهو أداء انعكس عجزاً اقتصادياً وأدى إلى خروج رأس المال من البلاد نتيجة تأرجح العملة وإنذارات الفشل التي أعطتها الحكومة بعد إخفاقها في بث الطمأنينة والاستقرار الاقتصادي في البلاد.
يتساءل الخبراء الاقتصاديون عن سبب هذا الانحدار في كل من البرازيل والأرجنتين مع أنهما يملكان كل الظروف الملائمة على الصعيدين الداخلي والخارجي للنمو والاستقرار، وأنّهما لا يواجهان تحديات جدية كفنزويلا مثلاً التي تتعرض لحصار خارجي وأزمة سياسية داخلية. كما أنّ الحكومتين اللاتينيتين ورثتا وطنين مستقرين، اقتصادياً على الأقل، وهما تحوزان رضا «دول النفوذ» بعدما باتت السياسات الخارجية للدولتين رهن الإشارة الأميركية، وخضعتا لتوصيات البنك الدولي عبر حرمان الفقراء من برامج الرعاية وفتح الأبواب أمام الشركات الغربية لشراء أهم المرافق، حتى لو كان بعضها يحمل بعداً سيادياً.
أخفق اليمين اللاتيني في صرف شعاراته التي قاد على أساسها انقلاباً ضد من سماها الأحزاب «الشعبوية» و«العقائدية». أعاد الزمن إلى عهد الإقطاع الذي يرسم السياسات التي ترعى مصالح الشركات وتزيد الفقراء تهميشاً وحرماناً في منطقة يُشكّل الفقر فيها نسباً شديدة الارتفاع. شعر الناس بعد وقت وجيز من حكم الأحزاب اليمينية بحجم المسافة التي تفصلهم عن هذه الطبقة المترفة التي أبدت استعدادها للتنازل عن استقلالها وتحويل شعوبها إلى مرتزقة وعمال بأجور متدنية. لقد آمن الناس بأنّ بقاء هذه الطبقة لن يُبقي أثراً لوطنهم. وعليه، فإنّ التجربة قد تقود القارة إلى ثورة مضادة تعيد لهم الحقوق المنهوبة والسيادة التي تؤمن لهم حرية العيش وتقرير المصير.