يعدّ الإنترنت سلاحاً ذا حدين، حيث يمكن أن يحسن الفرد استخدامه ويعود عليه بفوائد كبيرة، أو أن يسيء ‏استخدامه ويعود عليه بالأضرار الوخيمة. لا يخلو هذا العالم «الافتراضي» من الفضائح التي نسمع عنها بين الحين و الآخر، وربما يكون أخطرها انتهاك الخصوصية الشخصية لمستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي. في هذا السياق، كشف موقع «فايسبوك» عن أن 87 مليون مستخدم تضرروا من فضيحة اختراق البيانات التي حصلت عليها شركة «كامبردج أناليتيكا للاستشارات».وكان محلل البيانات الكندي كريستوفر وايلي، قد فجر مفاجأة اختراق بيانات المستخدمين على «فايسبوك» في آذار الماضي، وقال إن شركة «كامبردج أناليتيكا» حصلت على بيانات 50 مليون مستخدم استعين بها لمصلحة الحملة الانتخابية للرئيس دونالد ترامب في عام 2016. في مواجهة الفضيحة، أعلنت «فايسبوك» أنها قررت اتخاذ إجراءات لتقييد وصول البيانات الشخصية إلى طرف ثالث.
وعلى خلفية ما سبق، تتعرض أكبر شركة للتواصل الاجتماعي في العالم لانتقادات لاذعة من المستثمرين في الولايات المتحدة، وتواجه غضب المستخدمين والمعلنين وأعضاء مجلس النواب الأميركي، وخصوصاً أن الأمر يقترن كذلك بسلسلة فضائح بشأن «الأخبار الكاذبة» و«التدخل في الانتخابات» والخصوصية.
قد تكون فضيحة «فايسبوك ــــ كامبردج أناليتيكا» الأخطر من حيث استباحة الحريات الشخصية، ولكن بعد هذه الفضيحة تم إقرار قانون يفوقها خطورة وهو قانون «كلاود أكت».
هذا التشريع الأميركي يعود أساسه الى المعضلة التي حصلت عام 2013، في الولايات المتحدة، بين الوكالات الأمنية الأميركية وشركة «مايكروسوفت»، إذ اتهمت الأخيرة بعدم الامتثال لقانون الاتصالات المخزنة الذي صدر عام 1986، والذي يفرض على موردي خدمات الاتصالات تقديم المعلومات للوكالات الحكومية ضمن إطار أعمال التحقيقات الخاصة بها.
حينها، عللت «مايكروسوفت» عدم الامتثال للقانون المذكور، ورفضها بالتالي الكشف عن البيانات المخزنة على خوادمها في دبلن عاصمة إيرلندا، بعدم وجود إطار قانوني يسمح بتسليم مثل هذه البيانات في الولايات المتحدة، مشددة على أن قانون 1986 لا يمكن تطبيقه على تقنيات «كلاود»، حيث إن هذا النظام لم يكن متوفراً وقت صدوره.
هذا النزاع بقي مجمّداً لسنوات، لكن فضيحة فايسبوك خلقت رغبة في البيت الأبيض لاستخدام القنوات القانونية القائمة بشكل أكثر فعالية بين الحلفاء، وتعديلها من أجل مواجهة التحديات الجديدة المتعلقة بانتشار التقنيات الحديثة، وذلك عبر إنشاء آليات تعاون جديدة مع الدول التي تعتبرها شريكة لها، وفي مقدمتها المملكة المتحدة وكندا وأوستراليا ونيوزيلندا وبعض الدول الأوروبية.
وفي هذا السياق، طورت الدوائر الحكومية ومجتمع الأعمال في الولايات المتحدة آلية قانونية للتعامل مع المشكلة، وقدمت مشروع قانون تحت اسم «كلاود أكت».
ويسمح مشروع القانون الجديد للمدعي العام الأميركي بإبرام اتفاقات خاصة تجعل من الممكن للوكالات الأمنية الأميركية وشركائها في الخارج الحصول على البيانات الشخصية للمستخدمين المخزنة في الخارج من دون أمر من المحكمة.
ويشير مشروع القانون تحديداً إلى إسقاط مبدأ المعاملة بالمثل، ما يعني أن الاتفاقية المذكورة لن تنطبق على طلبات توفير بيانات شخصية للمستخدمين في الولايات المتحدة الأميركية!
ما يثير الدهشة أن ثمة إجماعاً في المجتمع الأميركي على تبني هذه المبادرة. وقد تم التعبير عن الرأي الإيجابي في ما يتعلق بهذا القانون من قبل منظمات حقوق الإنسان، بما في ذلك المنظمات غير الحكومية، إلى جانب الشركات العملاقة مثل «مايكروسوفت» و«فايسبوك» و«آبل» و«غوغل»، والتي أصدرت بياناً مشتركاً رحبت فيه بـ«كلاود أكت».
أما الدافع وراء ذلك الترحيب، فهو عدم تحمل المسؤولية عن الكشف عن البيانات الشخصية للمستخدمين بناء على طلبات من الوكالات الأمنية الأميركية.
في نهاية آذار الماضي، وافق الكونغرس على قانون «كلاود أكت»، ووقعه رئيس الولايات المتحدة. وقد تم بالفعل تضمين تمويل تنفيذه في الميزانية الفدرالية الأميركية لعام 2018 بمبلغ 1.3 تريليون دولار.
على الضفة الأخرى، اكتسبت الوثيقة قبولاً في بريطانيا، ففي 6 شباط الماضي، وخلال اتصال هاتفي مع دونالد ترامب، قالت تيريزا ماي إن لندن تدعم القانون، وتؤكد على أهمية هذه المبادرة لزيادة كفاءة تحقيقات السلطات البريطانية في النشاط الإجرامي والإرهابي، وكذلك الأمن الجماعي لكلتا الدولتين.
بعد ذلك، نشرت صحيفة «نيويورك تايمز»، في 14 شباط، مقالاً داعماً لمشروع القانون من قبل توماس بوسيت، مساعد الرئيس الأميركي لشؤون الأمن الداخلي ومكافحة الإرهاب، وبادي ماكغينيس، نائب مستشار الأمن القومي للاستخبارات والأمن في مجلس الوزراء في المملكة المتحدة، بعنوان «لا تدع المجرمين يخفون بياناتهم في الخارج».
الرسالة الرئيسية للمقال، هي القيادة الأميركية في مجال الأمن السيبراني وافتقار الوكالات الأمنية الأميركية التي تحقق في الجرائم إلى القدرة على الوصول إلى بيانات المستخدمين المخزنة خارج البلاد، طارحاً السبل لحل هذه المعضلة.
كاتبا هذا المقال قسّما المجتمع الدولي إلى فئتين، تضم الأولى البلدان الغربية الديموقراطية، التي تحترم حقوق الإنسان، ويسمح لها بالتمتع بأقصى قدر من الحرية في الوصول إلى بيانات المستخدمين لمواجهة التهديدات الإجرامية والإرهابية. و في المعسكر الآخر، هناك الدول «الاستبدادية» التي يجب منعها من مثل هذه الخيارات.
بالتوازي مع هذا الدعم، ثمة قلق من بعض الشركات الأميركية من أنها قد تواجه الهروب المحتمل للعملاء الذين يتوقع، بعدما فقدوا ضماناتهم أو أمن البيانات الشخصية، أن يقوموا بنقل معلوماتهم الخاصة إلى منصات لا يمكن الوصول إليها من قبل السلطات الأميركية، ما من شأنه أن يلحق الخسائر في سوق تقنيات كلاود لمصلحة المعسكر الآخر، وبالتالي فقدان الهيمنة الحالية في هذا المجال.
وعلاوة على ذلك، قد يتعارض الامتثال لمتطلبات القانون مع تشريعات البلدان الأجنبية بشأن توطين البيانات ويؤدي إلى دفع الغرامات، وبالتالي ارتفاع كلفة التخزين.
ومن المعارضين لهذا القانون «مؤسسة الحدود الإلكترونية» (EFF)، التي اعتبرت بعد إمرار مشروع القانون أن «هذا التشريع النهائي المتفق عليه سيؤدي إلى تآكل حماية الخصوصية في جميع أنحاء العالم».
ومن المعارضين أيضاً عضو مجلس الشيوخ الجمهوري راند بول الذي كتب تغريدةً في الثاني والعشرين من آذار، أي يوم التصويت على القانون، أنه «ينبغي على الكونغرس رفض قانون كلاود لأنه يخفق في حماية حقوق الإنسان أو خصوصية الأميركيين... ويتسبب في تخليهم عن دورهم الدستوري، ويمنح الكثير من السلطة للمدعي العام ووزير الخارجية والرئيس والحكومات الأجنبية».
مصدر روسي رسمي كشف للمرة الأولى، في حديث خاص، عن أن تلك المبادرة «تحت المجهر» وهي تعتبر محاولة أخرى لبسط اليد أكثر دون حسيب أو رقيب للإدارتين الأميركية والبريطانية في الفضاء الرقمي تحت ذريعة محاربة الإرهاب. وعلق المصدر الروسي أن هذا الأمر لا يمكن أن يبقى مسموحاً للولايات المتحدة وممنوعاً عن باقي الدول.
يضيف المصدر الروسي أن الإدارة الأميركية تسعى إلى إضفاء الشرعية على استحصالها على البيانات الشخصية للمستخدمين من خلال وكالات استخباراتها الخاصة وهذا العمل ينتهك حقوق الإنسان والحريات الأساسية، وهو تحايل على قوانين الدول الأخرى. فمن الواضح، أن الأنغلو-ساكسون يرون اتفاقية بودابست لعام 2001 بشأن الجريمة السيبرانية، ولا سيما الفقرة 32 ب التي تضع ضوابط للوصول الى البيانات خارج الحدود غير كافية، وبخاصة في سعيهم للحصول على حقوق استثنائية وتحقيق الهيمنة في مجال الأرقام.
ويختم المصدر الروسي، أن هذا القانون من شأنه أن يفتح الباب أمام القضاء الأميركي لإصدار أحكام تتجاوز حدود السيادة الوطنية للبلدان الأخرى وفرض مزيد من المراقبة والسيطرة على الشبكة العنكبوتية... وهذا المخطط كان قد أفصح عنه في عام 2013 إدوارد سنودن، العضو السابق في وكالة المخابرات الأميركية، الذي وضع على لائحة «فاضحي أسرار أميركا» عندما كشف برنامجاً تجسّسياً سرياً للحكومة الأميركية لمراقبة اتصالات الهواتف والإنترنت، أو ما يعرف بـ«بريزم».