لم يعد الحديث على بقاء الاتفاق النووي بالأهمية التي كانت تشغل بال المراقبين. حتى الإيرانيون باتوا يلوّحون، في تصعيد لردود فعلهم على واشنطن، بأنهم لن يبقوا مكتوفي الأيدي وسيتخذون «إجراءات» إن بقيت السياسة الأميركية على حالها حيال الملف، ولو لم يمزّق ترامب الاتفاق. كل المؤشرات، منذ أسابيع، تدل على دخول مرحلة جديدة تستعاد فيها لغة الحرب والحصار التي كانت سائدة تجاه إيران ما قبل الاتفاق، من العقوبات التي تُعدّ على عجل بين الاتحاد الأوروبي ووزارة الخزانة الأميركية، إلى التصعيد الميداني في الساحة السورية حيث عملية ترسيخ ربط النزاع الأميركي ـــ الإسرائيلي مع الاتفاق النووي، بواسطة الميدان، على قدم وساق. كلما اقترب موعد مراجعة ترامب للاتفاق في الـ 12 من الشهر الجاري، تصاعد التوتر على خط طهران ـــ باريس ـــ واشنطن. الوسيط الفرنسي، الموكل أميركياً بالاتفاق، لم يسجّل بعد أي نجاح في جلب الإيرانيين إلى طاولة التفاوض على ملفي الصواريخ الباليستية والحضور الإيراني في الشرق الأوسط، وآخر فشل له مثّله اتصال ماكرون ـــ روحاني، أول من أمس، حين سمع الأول من الثاني رفضاً رسمياً لأي تفاوض على الاتفاق. جلسات وجولات التفاوض الطويلة بين الأوروبيين والأميركيين لم تسفر سوى عن انصياع أوروبي لضغوط البيت الأبيض، والانجرار إلى مشروع إحباط الاتفاق النووي، برغم الثمن الأوروبي تجارياً. ومنذ قمتي ترامب مع كل من المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، لم تهدأ الاتصالات في الساعات الأخيرة بين عواصم القرار: محادثات بين رئيسة الحكومة البريطانية تيريزا ماي وكل من ميركل وماكرون أفضت إلى تبني مقترح «الاتفاق الجديد»، ومن ثم اتصالين لماكرون بروحاني والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لم يسجل فيهما أي توافق على الشروع بمفاوضات جديدة، وقد سمع ماكرون من بوتين تأكيداً على التمسك بالاتفاق الحالي. يضاف إلى ذلك اتصال ترامب بكل من ماكرون، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مترافِقاً مع المؤتمر الصحافي للأخير بشأن برنامج طهران النووي.
لم يصرح الثلاثي الغربي بتأييده قرار ترامب تمزيق الاتفاق، لكن توافقه على مشروع التفاوض على اتفاق جديد وإعداد عقوبات إضافية، ينطوي، عملياً، على تسليم بخريطة طريق ترامب، ولو من دون تبني سقف مواقف الرئيس الأميركي؛ كون طهران أكدت، على لسان أكثر من مسؤول، أنها لن تبقى في اتفاق لا يعود عليها بالنفع، فضلاً عن انسحابها من الاتفاق حال انسحاب ترامب. كل ذلك يحدث وسط ضغوط أميركية محمومة على الأوروبيين، تحثهم على فرض عقوبات ضد برنامج إيران الصاروخي. والأوروبيون، من جهتهم، وخصوصاً الفرنسيون، باتوا شبه مسلّمين بانسحاب ترامب من الاتفاق، وهو ما كرّره ماكرون في أكثر من مناسبة.
شدّد بوتين على تمسك موسكو بالاتفاق النووي و«ضرورة التزام الجميع به»


مواقف ترامب مساء أمس، زادت من الانطباع السائد بأن الخروج من الاتفاق هو الخيار الأكثر ترجيحاً، مع أن ترامب لم يقلها صراحة بعد. لكن الرئيس الأميركي دافع عن الخروج من الاتفاق، معتبراً أنه لن يكون له تأثير سلبي على المحادثات النووية مع كوريا الشمالية، وقال «أعتقد أنه (الخروج من الاتفاق) يبعث بالرسالة الصحيحة (لبيونغ يانغ)... تعرفون أن هذا الاتفاق سينتهي سريانه خلال سبعة أعوام، وسيكون لإيران مطلق الحرية في المضي قدماً وإنتاج أسلحة نووية». وجدّد الرئيس الأميركي هجومه على الاتفاق قائلاً: «هذا ليس وضعاً مقبولاً. إنهم لا يجلسون مكتوفي الأيدي. إنهم يطلقون صواريخ يقولون إنها لأغراض تلفزيونية. لا أعتقد ذلك»، وأضاف: «هذا لا يعني أننا لن نتفاوض بشأن اتفاق حقيقي».
الأبرز، عقب مؤتمر نتنياهو الصحافي، كان اتصال رئيس الوزراء الإسرائيلي ببوتين، الذي شدّد على تمسك موسكو بالاتفاق النووي و«ضرورة التزام الجميع به» بحسب ما أفاد الكرملين أمس، من دون أن يشير إلى الرسائل التي بعث بها نتنياهو في اتصاله. وإذا كان الرهان على اتصال بوتين ـــ نتنياهو، بعد القصف الإسرائيلي في سوريا ومؤتمر نتنياهو الصحافي، لتخفيف حدة التوتر، فإن كلاً من الرياض وتل أبيب باتتا أكثر من أي وقت مضى تشعران بتقدم مطلب التصعيد مع إيران، في ظل نجاح ترامب بإقناع الأوروبيين بصياغة اتفاق جديد.
خطوات إسرائيل في سوريا، ودخولها الاشتباك المباشر مع الإيرانيين، وسط الاتصالات والخطوات الغربية، يعزز القول بأن ما يجري جزء من استراتيجية موحدة ومنسقة للضغط على طهران، ودفعها إلى التفاوض على الصواريخ الباليستية والوجود العسكري خارج حدودها. وهو ما سيستفيد منه ترامب في حسم قراره تجاه الاتفاق في الأيام القليلة المقبلة، عبر استطلاع احتمالات إحداث اختراق في الموقف الإيراني.
في حمأة كل هذه التصريحات والاتصالات التي لا تهدأ، يبدو أن الجميع، بمن فيهم الأوروبيون، باتوا «متورطين» في مسار التصعيد. أما في طهران، فليس ثمة ما يدل على إمكانية التجاوب مع الضغوط التي تخطت السياسة إلى الميدان، لتقديم موقف تنازلي يقبل التفاوض على الملفات كافة، أو النقاش حول اتفاق جديد. وقد سارع وزير الخارجية، محمد جواد ظريف، أمس، إلى الرد على نتنياهو، معتبراً أن «ترامب يعيد طرح ادعاءات قديمة تعاملت معها وكالة الطاقة الذرية من قبل». كما عدّ مساعد ظريف، عباس عراقجي، ما عرضه نتنياهو «مسرحية هزلية وصبيانية شهدنا مثلها في الأعوام الماضية». وكان ظريف قد استبق مؤتمر نتنياهو، بتشبيهه الأخير بـ«الراعي الكذاب».