لندن | في مواجهة الحملة البريطانية، تظهر روسيا رابطة الجأش، فيما تنفي بشدّة تورطها في الحادثة. ومع أن الجاسوس البريطاني المستهدف ــ مع ابنته ــ كان قد أطلق سراحه من سجن روسي في صفقة لتبادل الجواسيس بين الولايات المتحدة وروسيا قبل سبع سنوات، فإن سكيربال الذي انتقل إلى لندن ويعيش في رعاية استخباراتها لا يبدو هدفاً ذا قيمة حقيقيّة يستحق أن تخاطر موسكو من أجل تصفيته، في الوقت الذي تتصاعد فيه مواجهتها مع الولايات المتحدة والغرب بشأن عدة ملفات، أكثرها سخونة الحرب على سوريا، ولا سيّما أن الرجل لم تعد في جيبه أسرار ليكشفها، بل صارت معلوماته العسكريّة أيّام خدمته في الجيش الروسي منتهية الصلاحيّة. مع ذلك، تُفسّر بعض الصحف البريطانيّة محاولة الاغتيال بأن الرئيس فلاديمير بوتين أراد أن يبعث برسالة داخليّة قويّة إلى أعوانه قبل خصومه، في أجواء الانتخابات الرئاسيّة الروسية، مفادها أن الخيانة لا يمكن التسامح معها ولو بعد زمن، وأن يد القيصر طويلة ولا تقف في وجهها أعتى أجهزة الاستخبارات العالميّة.لكن تلك التعليقات، ومثلها تصريحات بعض الساسة البريطانيين خاصة أعضاء حزب المحافظين الحاكم، بدت أشبه بـ«ثرثرة قديمة» من أفلام الستينيات والسبعينيّات المغرقة بأجواء الحرب الباردة بين الغرب والاتحاد السوفياتي، ولم تثر حماسة كبيرة في الشارع البريطاني الغارق بهموم معيشيّة ولم يعد يسهل تجييشه لشنّ مواجهات خارجيّة جديدة بعد تجربة الخداع الرسمي المريرة لشن الحرب على العراق بناءً على ادّعاءات ــ تبين أنها غير صحيحة ــ بشأن امتلاك بغداد أسلحة دمار شامل.
جراء ذلك، ارتفعت أصوات تتّهم ماي باستدعاء أجواء الحرب الباردة للهرب من الأزمة الخانقة التي تعيشها البلاد بسبب عزلتها في الاتحاد الأوروبي والمواجهة المحتدمة في مفاوضات «البريكست» مع بروكسل، ولا سيّما في مسألة الحدود مع إيرلندا الشماليّة، خاصة بعد الكشف عن أن تكلفة الخروج من الاتحاد ستكون أكبر بكثير ممّا تحدثت الحكومة عنه في وقت سابق.
ومما يدفع إلى أخذ هذه الأصوات بجديّة عجز الحكومة البريطانيّة عن تقديم أيّ أدلة بشأن تورط روسي محتمل في محاولة الاغتيال، وهو ما أشار إليه زعيم المعارضة العماليّة جيريمي كوربن في حديثه أمام البرلمان بشأن الحادثة، مشدداً على أن استخدام الأسلحة الكيميائيّة المتطورة في الحروب «مسألة مرفوضة تماماً، فكيف في أجواء مدينية حضريّة». لكن كوربن دعا إلى إجراء «تحقيق مستوف بجهود مشتركة مع الشركاء الأوروبيين». ورغم التصريحات الصحافيّة المؤيدة للندن في كل من باريس وبرلين، فإن الشركاء الأوروبيين بدوا أيضاً قليلي الحماسة للانخراط الفعلي في مواجهة كبرى مع موسكو، وهم المتورطون مسبقاً بعقوبات فرضوها على روسيا إرضاءً للجانب الأميركي، مع أنها أضرّت اقتصادهم قبل أن تمسّ الاقتصاد الروسيّ المزدهر.
هل تورطت لندن في مشروع أميركي للضغط على أعصاب موسكو؟


وكانت السلطات البريطانيّة قد سارعت بالفعل إلى اتهام الحكومة الروسيّة بتنفيذ محاولة اغتيال الجاسوس الذي يرقد وابنته وشرطي بريطاني في المستشفى في حال الخطر، بدعوى أن المادة المستخدمة في الاغتيال لا تُصنّع في أي مكان سوى روسيا. لكن ذلك الادعاء لم يثبت، بل تحدثت مصادر صحافيّة عن أن الجاسوس كان يقيم في سالزبوري قرب لندن، وهي منطقة لا تبعد أكثر من خمسة أميال عن واحد من أهم مراكز صناعة الأسلحة الكيميائية والبيولوجيّة في العالم، والذي يظن أنه امتلك القدرة على تصنيع تلك المادة منذ العقد الماضي كما مختبرات أخرى في الغرب.
مهما يكن من أمر الدافع وراء تصعيد هذا الموقف، فإن مروحة الخيارات البريطانيّة في مواجهة روسيا تبدو بالفعل شبه منعدمة. فاحتمال الرد العسكري غير وارد بالنظر إلى ميل ميزان القوّة الساحق لمصلحة روسيا والضعف التسليحي والعددي للجيش البريطاني الذي يقل تعداد أفراده ومعداته عن الجيش السعودي. كذلك فإن طرد الدبلوماسيين الروس من لندن سيقابله من دون شك إجراء مساوٍ بحق الطاقم الدبلوماسي البريطاني في موسكو. وإن تسرعت لندن بإغلاق «روسيا اليوم»، فإن عدة مؤسسات صحافيّة بريطانيّة من «بي بي سي» إلى «الفاينانشل تايمز» و«الإيكونومست» ستضطر إلى إغلاق مكاتبها في موسكو. ومن دون شك لن تمانع موسكو التضييق على مواطنيها الأثرياء الذين يقصدون لندن، إذ إن كثيرين من هؤلاء أصلاً معارضون لحكم بوتين، وعدد منهم متّهم بغسل أموال وسرقة ممتلكات وقضايا فساد.
وبينما تهدّد ماي بفرض عقوبات دوليّة ضد روسيا، فإن مجلس الأمن لن يكون بمقدوره إصدار أي قرارات في هذا الشأن بالنظر إلى حق النقض الذي تمتلكه روسيا. أما فكرة فتح حرب إلكترونيّة ضد مصالح روسيّة، فهي أقرب إلى «مزحة ثقيلة» بالنظر إلى القدرة الروسيّة الفائقة على الرد في الفضاء السايبيري تحديداً. في ظل ذلك كلّه، يبدو التهديد بإلغاء زيارة وزير الخارجيّة الروسي، سيرغي لافروف، إلى لندن أو بغياب أفراد العائلة الحاكمة عن مباريات كأس العالم المقبلة في موسكو، هو سقف ما تسمح به ظروف المملكة المتحدة في هذه المرحلة.
ومناورة رئيسة الوزراء «السكيرباليّة» تقارب على الصعيد الاستراتيجي الخطيئة. فماي التي تحكم بأغلبيّة هشّة، وضعت البلاد في حال عزلة مع الشركاء الأوروبيين الذين لا يعتقدون أن لديها القوة السياسيّة الداخليّة لفرض إملاءات بشأن «البريكست»، وهم عازمون في ما يفهم من مسار المفاوضات حتى الآن على التصلب بخصوص مسائل الاتحاد الجمركي وتسديد فاتورة الطلاق من الاتحاد.
وبينما يكتفي الحليف الأميركي بتقديم دعم لفظي محدود، لم تنجح جهود حكومة ماي في بناء تحالفات اقتصاديّة عبر البحار تعوّض البلاد عمّا ستخسره من التجارة مع أوروبا، ربما باستثناء خط الدعم السعودي الذي يوفره ولي العهد محمد بن سلمان، مقابل حصوله على تبريكات لندن لتوليه العرش في وقت قريب، وتلك بالطبع عوائد مرتهنة وغير مضمونة بالنظر إلى الصراعات الداخليّة التي تعيشها السلالة الحاكمة هناك، وانعدام الدعم الشعبي للسياسة الحكوميّة تجاه الرياض بين غالبيّة المواطنين البريطانيين. وتأتي مسألة الجاسوس الآن لتقضي على بطاقة قوة محتملة كان يمكن للندن أن تلوّح بها على الأقل في وجه شركائها الأوروبيين وقت الحاجة.
فهل تورطت ماي في مشروع أميركي للضغط على أعصاب موسكو من البوابة الأوروبيّة، أم أن قصر نظر حكومتها المهلهلة أدخلها في متاهة لن تخرج منها بأيّ مكاسب داخليّة؟ ربما هما الأمران معاً، لكن الأكيد أن موسكو تكيّفت موضوعياً على العيش في الأجواء الباردة، ولن يضيرها كثيراً صراخ رئيسة وزراء تلك الجزيرة الصغيرة العالقة بين القارة الأوروبيّة وإيرلندا، بينما تستمر حكومة المحافظين في مراكمة الأخطاء السياسيّة والاقتصاديّة التي سيدفع البريطانيّون ثمنها لعقود مقبلة.