احتجّت الكنيسة البروتستانتية في الجزائر بشدّة على ما اعتبرته مضايقات تلحق بمعابدها وأتباعها في مناطق عدة من البلاد. وأصدرت أوّل من أمس، بياناً شديد اللهجة، استنكرت فيه ممارسات قوى الأمن والقضاء. وجاء في البيان: «نحن الكنيسة البروتستانتية في الجزائر نُعرِب عن قلقنا العميق بعد إغلاق العديد من أماكن العبادة من السلطات، ونندد بكل أنواع التحرشات التي يعيشها حالياً أعضاء الكنيسة». وهدد القيّم على الكنيسة في مدينة وهران باللجوء إلى الاعتصام أو أشكال أخرى من التعبير عن الغضب في حال عدم فتح المعابد في أقرب وقت أمام روادها وتمادي الجهات الإدارية والأمنية في التضييق عليها.وكانت قوى الأمن قد أغلقت في الأيام الأخيرة ستة من أماكن العبادة لهذه الكنيسة في كل من وهران كبرى مدن غرب البلاد، وتيزي أوزو، وبجاية في منطقة القبائل، وورقلة في وسط الصحراء، بدعوى أنّها غير مطابقة للمعايير المحددة قانوناً لأماكن العبادة. وتعرضت المعابد البروتستانتية لعمليات إغلاق كثيرة في السابق، ويُخلِّفُ ذلك في كل مرة سجالاً بينها وبين السلطات العمومية. وهددت الكنيسة بجمع أتباعها للاحتجاج في الشارع، مثلما حدث قبل سنوات في مدينة تيزي أوزو، حين أغلق الأمن، بأمر من القضاء معبدين، فتجمّع الأتباع ورفعوا شعارات تندد بالظلم، استجابت لها منظمات دولية ومارست ضغوطاً على السلطات.
وسجلت الكنيسة حالات الإغلاق في سياق التضييق والتمييز الديني، وخاصة أنّها تزامنت مع إصدار حكم بالسجن ستة أشهر وغرامة مالية على شاب مسيحي من ولاية تيارت بتهمة «زعزعة إيمان مسلم»، وهي تهمة تضمنتها «تعليمة» أصدرها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في السادس من آذار/ مارس 2006 حول «شروط ممارسة الشعائر الدينية لغير المسلمين». وأثارت «التعليمة» التي لها قوة القانون، موجة احتجاجات من المسيحيين الجزائريين ومن دول أجنبية عدة، واعتُبِرَ القانون تمييزياً وعنصرياً على اعتبار أنّه يُحدّد «غير المسلمين»، في حين أنّ العبادات والأديان في مناخ الحريات يجب أنْ تُعامل تحت سقف قانون واحد. وتقضي هذه «التعليمة» التي يكافح المسيحيون في الجزائر حتى الآن لإلغائها، بمعاقبة أي شخص غير مسلم يسعى إلى التأثير بأي شكل من الأشكال على مسلم لتحويله إلى دين آخر. بدأ العمل بها في حينه، وكانت أوّل محاكمة بالتهمة ذاتها في الولاية نفسها بعد أسابيع من صدور القانون.
يضمن القانون حرية المعتقد والفكر، لكنه يترك فجوات يتسلل منها القهر


وفق المعلومات المتداولة بين الناس في ولاية تيارت، فإن الشاب واسمه نور الدين، كان يحمل معه كتباً عن معتقده الديني وقد وشى به أحدهم، فاعتقلته فرقة من الدرك ووجدت لديه تلك الكتب واعتبرتها دليلاً على أنّه كان يوزّع وثائق غير إسلامية وهو أمر يعاقب عليه القانون بالحبس والغرامة ما لم يسبقه ترخيص من الجهات المسؤولة. ولقد تحوّلت هذه المحاكمة التي جرت على فترتين في 28 شباط/ فبراير و8 آذار/ مارس إلى حملة سخرية غير مسبوقة من القضاء والقضاة ورجال الأمن ومن يسدي لهم الأوامر. فقد تبادل روّاد منصات التواصل الاجتماعي منشورات ومقالات تهكمت على تهمة «محاولة زعزعة إيمان مسلم» التي وجّهها «وكيل الجمهورية» للشاب المسيحي نور الدين. فيما اختلفت المواقف الصادرة عن وسائل الإعلام بين مؤيد ومعارض لمثل هذه الأحكام، وفقاً لنزعة الكاتب والصحيفة والقناة التي يعمل بها.
وفي سياق التهكم، تشكل «سُلّم إيماني» على شاكلة «سلّم ريختر» لقياس الزلازل يتكون من أربع درجات سماه المتهكمون «سُلم تيارت الإيماني» نسبة الى ولاية تيارت التي تقع بها المحكمة التي قضت بالعقوبة. وتبادلوا الأخبار حول أوضاع إيمانهم ومستويات تأثره بهذه أو تلك من الأحداث. وكتب آخرون عن «منحدر القضاء» و«مستنقع المرجعية الدينية»، وكلّها عبارات تسخر من وضع قائم في الجزائر حيث تضمن القوانين نصاً كل الحريات، وفي مقدمتها حرية المعتقد والعبادة وحرية الفكر والرأي والتعبير، ولكنّها تترك فجوات يتسلل منها القهر بسهولة.
وبفعل التركيبة الذهنية لمن يُصدرون الأحكام، ومن ينفذونها، على مستوى القضاء وقوى الأمن، صار الاستناد إلى تلك الفجوات هو الأصل واعتماد نص القانون هو الاستثناء. ورداً على هذه الحملة وعلى استياء الكنيسة البروتستانتية، دعا وزير الشؤون الدينية والأوقاف محمد عيسى، الأئمة والقائمين على المساجد وموظفي قطاعه إلى استغلال الفرصة التي توفّرها منصات التواصل الاجتماعي لنشر الدعوة «الوسطية» ومحاربة «التطرف والإلحاد الذي صار يُسمى حداثة»، ومن أجل صيانة «المرجعية الدينية الجزائرية» في إشارة الى الإسلام السنّي المالكي.
وتنشر الصحف الجزائرية باستمرار وبأساليب «احتفالية» في معظم الأحيان مقالات وتقارير واخباراً عن اعتناق مسيحيين أو غير متدينين للإسلام، وتُجرى مراسم النطق بالشهادتين في احتفالات رسمية داخل المساجد ويسجل «المسلم الجديد» على وثائق رسمية تثبت انتماءه الجديد. ولا يوجد أيّ نص قانوني في الجزائر يمنع تشجيع المسيحيين أو اليهود أو غيرهم، على ترك أديانهم والالتحاق بالدين الإسلامي، بل تنشط المساجد بذلك وهي مؤسسات شبه رسمية، كما تعتبره الصحافة مكسباً للإسلام. وهو ما رأى فيه المسيحيون تمييزاً عنصرياً وقاهراً لهم كأقلية.
ويجري توزيع المطبوعات الدينية الإسلامية بصفة عادية جداً في أيّ مكان وفي أيّ وقت، من دون الحاجة إلى رخصة مسبقة. ويمكن لأي شخص أن يُقدِّم كتباً للمساجد وأن يضعها على الرفوف حتى من دون استشارة الإمام، على ألا يكون ذلك من طوائف غير «السنة المالكية». وقد سبق أيضاً أن اعتقل المئات من الطلاب والعمال والموظفين والتجار والبطالين بتهمة «التشيُّع». ودخل السجن العام الماضي عشرات من المنتمين للطائفة الأحمدية بولايات شرق البلاد، وخاصة بتهمة «الإساءة للمرجعية الدينية الجزائرية»، وهذه المرجعية في الحقيقة لا يتضمنها أيّ قانون رسمي، ولكن معمول بها «عُرفاً». وهي تعبير دخيل على الخطاب الديني الجزائري بدأ استعماله قبل أقل من عشرين عاماً. وأوّل من وظّفه رئيس المجلس الإسلامي الأعلى حالياً الدكتور بو عبدالله غلام الله، وكان وقتها وزيراً للشؤون الدينية. وجدير بالذكر أنّ كلّ الخلافات المسجلة بين السلطات الجزائرية والمسيحيين كانت مع الكنيسة البروتستانتية، وهي أقلية بالقياس إلى الكنيسة الكاثوليكية التي تتمتع بعلاقات طيبة جداً مع السلطة، وتُبثُّ ترانيمها كل يوم أحد عبر الإذاعة الرسمية من كنيسة السيدة الأفريقية.