في الأصل، عُدّت قضية سكوارسيني واحدة من الفضائح الكثيرة التي طاولت المقربين من نيكولا ساركوزي، إذ اتُّهم مدير الاستخبارات الداخلية باستغلال منصبه لممارسة التجسس بنحو غير قانوني لحساب "ولي نعمته" ساركوزي، وذلك في فترة ما بعد مغادرة ساركوزي للحكم عام 2012. وقد أدى الأمر الى إيداع سكوارسيني في الحبس الاحتياطي، في أيلول الماضي، وإلى متابعته قضائياً بتهم "استغلال النفوذ" و"إفشاء أسرار الدولة". لكن التحقيق القضائي سرعان ما سلك منحىً غير متوقع أدى إلى تفجير "فضيحة داخل الفضيحة" تتعلق باختراق الموساد للاستخبارات الداخلية الفرنسية، وتستر السلطات الفرنسية على ذلك منذ أربعة أعوام.برز هذا التطور في مسار التحقيق، بمحض الصدفة، في سياق استجواب سكوارسيني بشأن عدد من عمليات التنصت الهاتفي التي قام بها جهاز الأمن الداخلي، بأوامر مباشرة منه. واشتبه القضاء بأن دوافع الأوامر لم تكن مرتبطة بمهمات مكافحة التجسس التي يتولاها الجهاز، بل كانت تهدف إلى تزويد الرئيس السابق ساركوزي وعدد من المقربين منه، كوزيري الداخلية السابقين بريس أورتفو وكلود غيون، بمعلومات مسبقة عن التحقيقات القضائية التي تستهدفهم في عدد من قضايا الفساد المالي والتهرب الضريبي.
من بين عمليات التنصت التي أثارت فضول المحققين، عملية تعلقت بتنصت جهاز الأمن الداخلي على الاتصالات الهاتفية لأحد رجال الشرطة (السرية)، طوال عشرة أيام، في شهر حزيران/يونيو 2011، ليتوقف التنصت بعد ذلك من دون أن يفضي إلى أي تحقيق مع ذلك الشرطي أو توجيه أي اتهام إليه، ما جعل "المبرر الإداري" الذي قدّمه سكوارسيني، حين أمر بعملية التنصت، يبدو مشبوهاً للمحققين: "إفشاء أسرار حساسة".
جرى التستر على
العملية الإسرائيلية منذ عام 2011 خلافاً للأعراف

للدفاع عن نفسه، اضطر سكوارسيني إلى أن يكشف أن تلك العملية اندرجت ضمن التصدي لـ"نشاط معاد" من قبل الموساد، وأن "الشرطي" المذكور لم يكن الوحيد الذي جرى التنصت على مكالماته الهاتفية، بل كانت هناك مجموعة أخرى تضم عدداً من المحققين الذين ينتمون مثل زميلهم إلى "فرقة العمليات والتحريات المتخصصة"، التي كانت تابعة آنذاك للمديرية المركزية للاستخبارات العامة (دُمجت لاحقاً بجهاز الأمن الداخلي، ضمن إعادة هيكلة أجهزة الاستخبارات الفرنسية). واستمر التنصت بالنسبة إلى بعض هؤلاء إلى صيف 2012.
ووفقاً لتسريبات نشرتها صحيفة "لوموند"، ظهر أمس، إثر تفجر هذه الفضيحة، فإن اعترافات سكوارسيني في محاضر التحقيقات القضائية التي أجريت معه، في أيلول الماضي، كشفت أن الموساد استقطب هؤلاء المحققين التابعين للاستخبارات العامة الفرنسية ضمن عملية كان الهدف منها اختراق جهاز الأمن الداخلي الفرنسي إلكترونياً، بهدف الاستيلاء على معلومات الجهاز المتعلقة بمكافحة التجسس، وبالتالي وضع اليد على أسرار كافة أجهزة الاستخبارات التي يرصد الجهاز الفرنسي نشاطاتها ومخططاتها.
وفقاً للمحاضر نفسها، فقد أشرف على العملية ملحقان يعملان في السفارة الإسرائيلية في باريس، وُصفا بأنهما "ينتميان إلى الموساد أو مقربان جداً منه"، إضافة إلى رجل أعمال، لم تُكشف هويته، كُلّف إنشاء شركة متخصصة ببيع الأجهزة الإلكترونية وأدوات التنصت والمراقبة. أما رجال الاستخبارات الفرنسية الذين استقطبهم الموساد، فقد توزعت أدوارهم كالآتي: بعضهم كُلّف تزويد الإسرائيليين بوثائق سرية تتعلق بطبيعة الأجهزة الإلكترونية التي يعتزم جهاز الأمن الداخلي الفرنسي اقتناءها، حتى تتمكن شركة الإلكترونيات التي أسسها الموساد، عبر رجل الأعمال المذكور، من تقديم عروض مغرية للجهاز الفرنسي في هذا الشأن. أما البعض الآخر من هؤلاء العملاء الفرنسيين، فقد كانت مهمتهم العمل على التأثير في أصحاب القرار داخل الجهاز الفرنسي، لإقناعهم بالتزود بالأجهزة الإلكترونية من تلك الشركة الوهمية التابعة للموساد.
ووفقاً لاعترافات برنار سكوارسيني، فإن التنصت على هواتف رجال الشرطة الفرنسيين المستقطبين من قبل الموساد، كشف أن الهدف كان تزويد الاستخبارات الفرنسية بأجهزة إلكترونية زُرعت فيها "أحصنة طروادة" تسمح للإسرائيليين بالوصول، عن بُعد، إلى كل أسرار جهاز مكافحة التجسس الفرنسية.
اللافت أن القضية جرى التستر عليها منذ عام 2011، خلافاً للأعراف الدبلوماسية التي تقتضي عند انكشاف مثل هذه الفضائح المتعلقة بالتجسس، استدعاء سفير الدولة المعنية للاحتجاج، وطرد الدبلوماسيين المتورطين في العملية.
ووفقاً لما نقلته "لوموند" عن محاضر استجواب سكوارسيني، فإن انكشاف عملية الموساد تلك أدى إلى "شطب عدد من رجال الشرطة (السرية) الفرنسيين من الخدمة، بعد ثبوت تورطهم، ومتابعة رجل الأعمال صاحب شركة الإلكترونيات المشبوهة (قضائياً)، وتوجيه إنذار شديد اللهجة إلى الدبلوماسيَّين الإسرائيليين اللذين أدارا العملية".
وأضاف سكوارسيني قائلاً: "قبل أشهر قليلة، صادفت مجدداً الدبلوماسيَّين الإسرائيليين اللذين انتقلا الآن إلى القطاع الخاص"، في تلميح واضح إلى أنهما لم يُطردا من فرنسا، ولا يزالان يمارسان نشاطاتهما التجسسية، برغم انكشافهما للاستخبارات الفرنسية.
سكوارسيني كشف أيضاً عن مؤشر آخر ينمّ عن "المعاملة الخاصة" التي تحظى بها استخبارات الدولة العبرية في مفاصل السلطة الفرنسية. فعند سؤاله من قبل المحققين: ما دام الأمر يتعلق بالموساد، فلماذا أوردتم في استمارة المبرر الإداري لإخضاع رجال الشرطة (السرية) المذكورين للتنصت الهاتفي بأنهم متهمون بالتخابر مع أجهزة الأمن الجزائرية؟ ردّ المدير السابق لجهاز الأمن الداخلي الفرنسي بأن الهدف كان التمويه على الأمر، لضمان عدم تسريب المعلومة للموساد، مضيفاً أن تلك الاستمارة الإدارية تمرّ على أكثر من مصلحة استخبارية ووزارية (من المديرة العامة للأمن الداخلي، تنتقل الاستمارة إلى المديرية المركزية للشرطة، ومنها إلى ديوان وزير الداخلية، ثم ديوان رئيس الحكومة، وصولاً إلى اللجنة الوطنية للتنصت الأمني). ما يعني أن جهاز مكافحة التجسس الفرنسي يعرف أن للموساد أعيناً مزروعة في كل تلك المصالح، التي تشكل مفاصل حساسة في هيكلية السلطة الفرنسية، وأن تلك الأعين كانت ستقوم، حتماً، بتسريب المعلومة للإسرائيليين، لو ورد اسم الموساد في استمارات طلب التنصت.