إن أكثر ما يجعل أوستراليا محط اهتمام دولي هو موقعها الجغرافي في أسفل جنوب شرق آسيا، على تماس مع منطقة نزاع استراتيجية بين أكبر قوتين اقتصاديتين في العالم، الصين والولايات المتحدة، ما يجعلها بالنسبة لكلتيهما منطقة نفوذ، فيما تجمعها مع كل منهما مصالح مشتركة، الأمر الذي يضعها أمام خيار صعب تحتاج لحسمه. وفيما يرى مراقبون أن الخيار الاستراتيجي لأوستراليا محسوم لمصلحة الغرب، يعول آخرون على أن تتمكن من نسج علاقات إيجابية مع كل من الصين وأميركا، بدل أن تجد نفسها مضطرة للتضحية بجنودها فداء للمصالح الأميركية. كذلك، فإن العلاقة مع الدولتين الغريمتين مثّلت محط جدل في أوساط النخب السياسية والشعبية الأسترالية منذ عقد وحتى اليوم. على الصعيد الشعبي، ينقسم الرأي العام إزاء الموقف من العلاقة مع كل من الصين وأميركا، إذ وفقاً لاستطلاع حديث للرأي قام به مركز «لوي»، تبيّن أن 43 في المئة يعدّون العلاقات مع أميركا أكثر أهمية من تلك التي مع الصين، مقابل نسبة مماثلة اعتبرت العكس.
وصفت صحيفة صينية أوستراليا بأنها «قطة من ورق»

بين الاقتصاد والأمن

بالعموم، اعتاد الشعب الأوسترالي النظر إلى أميركا بمثابة الحامية لأمنه، وهي نظرة تأتي من ارتباط البلدين بتعاون عسكري نشط، منذ أن تصدت البحرية الأميركية لمحاولة اليابان مهاجمة أوستراليا عام 1941، وقع الجانبان بعدها، إلى جانب نيوزيلاندا، معاهدة حلف عسكري عرفت بـ«إنزوس» عام 1951.
وفيما يرتفع منسوب التوجس لدى الأوستراليين من القوة الصينية الصاعدة، إلا أن البلدين يرتبطان بمعاهدة تجارة حرة وقعت عام 2014، ووصفت في حينه بـ«التاريخية» بعد مفاوضات استمرت لعقد من الزمن، تلاها انضمام أوستراليا للبنك التنموي الآسيوي للبنى التحتية بقيادة الصين. كذلك، تعد الصين أكبر شريك تجاري لأوستراليا منذ عام 2007، إلى جانب كونها أكبر مستورد للصادرات الزراعية الأوسترالية. وتحاول الصين الاستفادة من هذه العلاقة الاقتصادية نتيجة حاجتها إلى الحصول على المواد الأولية بأسعار مخفضة (تصنف أوستراليا رابع مصدر للغاز السائل، وثالث منتج لليورانيوم، والأولى في تصدير الفحم والحديد الخام عالميا، وهي منتجة للنفط الخام وغنية بالثروة المعدنية). من جهة ثانية، تسعى الصين لربط أوستراليا بها اقتصادياً، نظراً للدور الذي من الممكن أن تؤديه كمرساة لأميركا في آسيا والمحيط الهادئ، في إطار خطة الولايات المتحدة التوجه شرقاً، ظهرت بقول الرئيس الأميركي باراك أوباما، العام الماضي: «إذا لم نضع القوانين في منطقة جنوب شرق آسيا، فإن الصين سوف تضع القوانين في تلك المنطقة».
لكن تعاون أوستراليا الاقتصادي مع الصين لا يخفف من وفائها العسكري والسياسي للولايات المتحدة. فهي ثاني أكبر مساهم في التحالف ضد «داعش»، وقاتلت إلى جانب أميركا في حروبها في العراق وأفغانستان وفييتنام، فضلاً عن الحضور العسكري الأميركي المباشر فيها، ولا سيما في قاعدة «داروين» التي يتوقع أن يصل عدد الجنود فيها إلى 2500 جندي بحلول عام 2017. وتسهّل هذه القاعدة الوصول إلى منطقة بحر الصين الجنوبي مقارنة بانطلاق القوات الأميركية من قواعدها في اليابان وكوريا الجنوبية. كذلك، تظهر وثائق للبنتاغون أن الولايات المتحدة تنظر لأوستراليا كمسرح عمليات ضد الصين.

نظرة «غربية» للصين

يمكن القول إن المجتمع الأوسترالي ينظر للصين بأعين الغرب: حكم شمولي ذو سجل أسود في ما يخص حقوق الإنسان. وبينما تبدو بعض شرائح المجتمع منفتحة لإعطاء حيز ثقافي للصين، إلا أن شرائح أخرى تشعر بالقلق إزاء إدراج اللغات الآسيوية في المنهاج الدراسي وانتشار المراكز الثقافية وصدور مطبوعات باللغة الصينية.
وبرزت في الفترة الأخيرة مسائل عدة عكست علاقة «الخوف والطمع» بين أوستراليا والصين، وفق توصيف رئيس الوزراء الأسبق طوني أبوت في عام 2014. أولى هذه المسائل، هي المال السياسي، إذ طفت على الواجهة الإعلامية في الآونة الأخيرة في أستراليا مسألة التبرعات المالية للأحزاب، إثر فضيحة الكشف عن تلقي السيناتور والقيادي في الحزب العمالي، سام داستياري، أموالاً لتغطية نفقاته الشخصية من رجال أعمال صينيين مشهورين في أوستراليا، ما أدى إلى استقالته من منصبه. على الأثر، عادت المطالبات بسن قانون يحظر التمويل الأجنبي للأحزاب بعد فشل المحاولات خلال الأعوام الماضية بسبب تلكؤ الأحزاب التي تدعي ظاهريا تأييد القانون، لكن في الواقع تتلقى هذه الأحزاب جميعها تمويلاً أجنبياً وفق تقرير نشرته الإذاعة الوطنية «إي بي سي»، ورد فيه أن التبرعات المرتبطة بالصين للحزبين بلغت 5.5 ملايين دولار خلال عامي 2013 و2015. الجدير بالملاحظة أن التبرعات لم تقتصر يوما على الصين، لكن المسألة لم تثر اعتراضات تذكر إلا حينما ارتبط التمويل بجهات صينية.
اعتاد الشعب الأوسترالي النظر إلى أميركا على أنها الحامية لأمنه

من جانب آخر، يبرز موضوع الاستثمارات الصينية التي تعد مسألة حساسة في أوستراليا بسبب التخوف من سيطرة كيانات صينية على قطاعات حيوية، وكان آخرها، قبل أسبوعين، بيع ميناء ملبورن لمستثمرين صينيين وأوستراليين بـ 7.3 مليارات دولار، في ما عُدّت من أكبر صفقات الخصخصة بتاريخ البلاد.
في هذا الشأن، كانت الحكومة قد لجأت لكبح جماح الصين سابقا من خلال منع بيع أكبر ملكية خاصة في العالم، وهي مزرعة لتربية الماشية تابعة لشركة «كيدمان وشركاؤه» بحجة معارضة المصلحة الوطنية. وأوقفت بيع أكبر شبكة كهرباء في جنوب أوستراليا «أوسغريد» لصاحبتي أفضل عرضين وهما الصين وهونغ كونغ، لكن المفاجأة كانت في تقرير صدر منذ 3 أسابيع عن مكتب الضرائب الأوسترالي الحكومي، يشير إلى أنّ الصين تملك 0.5 في المئة فقط من الأراضي الزراعية، وتتبوأ المرتبة الخامسة في قائمة الملّاك الأجانب، وهو ما فاجأ الأوستراليين، وهدّأ بعض مخاوفهم، فيما تحتل المملكة المتحدة المرتبة الأولى وتهيمن على 52 في المئة من حصة الأملاك الأجنبية في البلاد. في هذا السياق، دعا الرئيس الصيني شي جين بينغ، رئيس الوزراء الأوسترالي مالكولم ترنبول، خلال قمة العشرين في لاوس أستراليا لتأمين بيئة شفافة ومنصفة للإستثمار الأجنبي.
أخيراً، تبرز قضية بحر الصين الجنوبي. فبعد قرار محكمة التحكيم الدائمة القاضي برفض ادعاءات بكين بشأن حقوقها التاريخية في بحر الصين الجنوبي، وقّعت أوستراليا واليابان والولايات المتحدة إعلانا مشتركا يحض الصين على احترام التحكيم الدولي (رفضت أستراليا التحكيم الدولي والتسوية الإلزامية في ما يخص نزاعها مع تيمور الشرقية حول بحر تيمور)، ما دفع وزارة الخارجية الصينية للتحذير من تدهور العلاقات الصينية الأسترالية. هذا العامل أضفى مزيدا من التوتر على العلاقات الأسترالية الصينية، تبينت بوصف صحيفة «غلوبال تايمز» الصينية أستراليا بـ«قطة من ورق»، ودعت لاحقاً للانتقام من أوستراليا التي تعد «هدفا سهلا إذا ما عبرت بحر الصين الجنوبي»، الأمر الذي أثار قلق وامتعاض الشعب الأوسترالي.
ومع أن أوستراليا أعربت مراراً، على الصعيدين الشعبي والرسمي، عن معارضتها المشاركة في أي استهداف عسكري للصين حليفتها الاقتصادية، إلا أن علاقاتها المتشابكة مع كل من الصين والولايات المتحدة تطرح تساؤلات لدى النخب العسكرية والسياسية في البلاد عن مدى قدرة أستراليا على عدم الخضوع للضغوط الأميركية بشأن ما تسميه الولايات المتحدة «تأكيد حرية الملاحة» في بحر الصين الجنوبي، والبقاء على الحياد تجاه أي تحرك عسكري استفزازي ضد الصين. وفي هذا الشأن، أثار حديث مساعد رئيس الأركان الأميركي، الكولونيل، توم هاسنون، للإذاعة الأوسترالية العامة، بداية الشهر الحالي ضجة إعلامية، حين صرح بأن الأوستراليين يحتاجون إلى الإختيار وأنه «لا يمكن تحقيق التوازن بين التحالف مع الولايات المتحدة والإندماج الإقتصادي مع الصين»، تصريح عدّه البنتاغون مجرد رأي شخصي.




مواجهة «الرهانات الكبرى»

ارتفاع منسوب التوتر والريبة بين الصين وأوستراليا دفع الأخيرة إلى عقد صفقة جديدة مع فرنسا بقيمة 40 مليار دولار لبناء الجيل المقبل من الغواصات، بعدما كانت قد بدأت منذ عام 2014 بزيادة التسلح. وحديثاً، كشف كتاب الدفاع الأبيض لعام 2016، عن استثمارات كبيرة وجديدة في القدرات الدفاعية للبلاد، لمواجهة ما وصفه رئيس الوزراء مالكولم ترونبول بـ«رهانات كبرى» و«أوقات صعبة» في آسيا. كذلك، قامت كل من مدينتي سيدني وملبورن مطلع أيلول بإلغاء حفل إحياء الذكرى الأربعين لرحيل الزعيم الصيني ماوتسي تونغ، بعد التظاهرات المؤيدة والمعارضة للحدث، التي قام بها أوستراليون من أصول صينية والجالية الصينية هناك، التي تعد الأكبر في العالم. وقامت الحكومة أيضاً بإغلاق مراكز عدة خاصة بفكر كونفوشيوس، مع العلم أن الصين تعد أكبر مصدّر للطلاب والسياح إلى أوستراليا.